ص : ١٩٣
بدليل ما
يروى أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال لأحدهما : أتشهد أنّ محمدا رسول اللّه؟ قال : نعم نعم نعم، ثم قال له : أتشهد أني رسول اللّه؟ قال : نعم. فتركه. ثم دعا الثاني وقال : أتشهد أنّ محمدا رسول اللّه؟
قال : نعم، فقال له أتشهد أني رسول اللّه؟ قال : إني أصمّ، قالها ثلاثا، فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال :«أمّا هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضيلة فهنيئا له، وأمّا الآخر، فقبل رخصة اللّه فلا تبعة عليه» «١».
والقسم الثاني : من كانت عداوته بسبب المال والإمارة، وقد اختلف العلماء في وجوب هجرة صاحبه، فقال بعضهم : تجب، لقوله تعالى : وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة : ١٩٥] وبدليل النهي عن إضاعة المال. وبدليل
قوله صلّى اللّه عليه وسلّم :«من قتل دون ماله فهو شهيد» «٢»
، وقال آخرون : لا تجب، لأنّها لمصلحة دنيوية، ولا يعود من تركها نقصان في الدين، ولكنّ المنصف يرى أن الهجرة قد تجب هنا أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه، أو هتك عرضه بالإفراط.
قال اللّه تعالى : إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
كان الكلام من أول السورة إلى هنا في إثبات نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، مع إثبات التوحيد، ومحاجّة أهل الكتاب في ذلك، وفي بعض ما استحدثوا في دينهم.
وفي هذه الآيات وما قبلها يدفع اللّه شبهتين من شبههم.
قالوا : إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم والنبيين من بعده فكيف تستحل ما كان محرّما عليه وعليهم كلحم الإبل؟ أما وقد استبحت ما كان محرما عليهم فما يكون لك أن تدّعي أنك مصدّق لهم، وموافق في الدين، ولا أن تقول إنك أولى الناس بإبراهيم.
فرد اللّه هذه الشبهة بقوله : كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [آل عمران : ٩٣] وأنه لم يحرّم عليهم شيئا إلا ما كان عقوبة لهم، كما جاء في قوله : فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء : ١٦٠].
وأما الشبهة الثانية : فهي أنهم قالوا : إن اللّه وعد إبراهيم أن تكون البركة في

(١) قال السيوطي رواه ابن أبي شيبة، انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٤/ ١٣٣). [.....]
(٢) رواه مسلم في الصحيح (١/ ١٢٤)، ١ - كتاب الإيمان، ٦٢ - باب الدليل على أن من قصد، حديث رقم (٢٢٦/ ١٤١).


الصفحة التالية
Icon