ص : ٣٣٤
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء : ٣] فشرط في جواز الجمع بين النساء الوثوق من العدل بينهن. والعدل غير مستطاع، فكأن الجمع بين النساء غير جائز، لأنه مشروط بشرط قد أخبر اللّه أنه لا يتحقق ولن يكون، من أجل ذلك ترى أئمة التفسير من السلف الصالح كابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وأبي عبيدة وغيرهم يقولون :
إن العدل الذي أخبر اللّه عنه أنه غير مستطاع هو التسوية بين الزوجات في الحب القلبي، وميل الطباع، ومعلوم أنّ ذلك غير مقدور.
وأما العدل الذي جعل شرطا في جواز الجمع بينهن فهو التسوية بينهن فيما يقدر عليه المكلف ويملكه، مثل التسوية بينهن في القسم والنفقة والكسوة والسكنى وما يتبع ذلك من كل ما يملك ويقدر عليه.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي مليكة أنّ الآية نزلت في عائشة رضي اللّه عنها، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحبها أكثر من غيرها.
وروى الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي عن عائشة أنها قالت : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقسم بين نسائه، فيعدل، ثم يقول :«اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» «١»
وعنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : بما لا يملكه هو، ويملكه اللّه : المحبة وميل القلب غير الاختياري.
ومعنى الآية إنكم لن تقدروا على التسوية بين النساء في الحب وميل الطباع، فالتفاوت بينهن في الود والمحبة حاصل ولا محالة، وليس في استطاعتكم جلبه ولا دفعه، فاللّه قد عفا لكم عنه، ولستم مكلفين به ولا منهيين عنه، ولكن ذلك التفاوت في الحب له نتائج تظهر في الأقوال والأفعال التي تملكونها، وتقدرون عليها، ويصح تعلق الأحكام بها، فأنتم منهيون عن إظهار التفاوت في القول والفعل المقدورين لكم.
وقال بعض العلماء : حقيقة العدل بين النساء التسوية بينهن في كل شي ء، بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب في شأن من الشؤون، كالقسم والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها ما لا يكاد يحصر. والعدل بهذا المعنى غير مقدور للمكلف البتة. ولو حرص على إقامته وبالغ فيه، والعجز عن حقيقة العدل لا يمنع عن تكليفكم أيها الأزواج بما دونها من المراتب التي تستطيعونها، فإنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك كله.
فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فلا تجوروا على المرغوب عنها كلّ الجور،