ص : ٣٧٧
ونزلت «١» هذه الآية في اليهود، كان الحاكم منهم إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة سمع كلامه، وعوّل عليه، ولا يلتفت لخصمه، فكان يأكل السّحت، ويسمع الكذب، وكان الفقراء منهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية، ويسمعوا منهم الأكاذيب لترويج اليهودية والطعن على الإسلام، فالفقراء كانوا يأكلون السحت الذي يأخذونه منهم، ويسمعون الكذب، فهذا هو المشار إليه بقوله تعالى : سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وقيل : سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ الذي كانوا ينسبونه إلى التوراة أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ للربا، كما قال تعالى : وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [النساء : ١٦١].
والرشوة قد تكون في الحكم، وهي محرمة على الراشي والمرتشي، وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لعن الراشي والمرتشي والرائش يعني الذي يمشي بينهما «٢»،
لأنّ الحاكم حينئذ إن حكم له بما هو حقه كان فاسقا من جهة أنّه قبل الرشوة على أن يحكم بما يفترض عليه الحكم به، وإن حكم بالباطل كان فاسقا من جهة أنه أخذ الرشوة، ومن جهة أنه حكم بالباطل.
وقد تكون الرشوة في غير الحكم، مثل أن يرشو الحاكم ليدفع ظلمه عنه، فهذه الرشوة محرّمة على آخذها، غير محرمة على معطيها، كما روي عن الحسن قال : لا بأس أن يدفع الرجل من ماله ما يصون به عرضه، وكما روي عن جابر بن زيد والشعبي :
أنهما قالا : لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم.
وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام حين قسم غنائم بعض الغزوات وأعطى العطايا الجزيلة أعطى العباس بن مرداس أقل من غيره، فلم يرق ذلك في نظره فقال شعرا يتضمن التعجب من هذا التصرف فقال عليه الصلاة والسلام :«اقطعوا لسانه» فزادوه حتى رضي
، فهذا نوع من الرشوة رخّص فيه السلف لدفع الظلم عن نفسه، يدفعه إلى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه.
فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ
قيل : نزلت هذه الآية في أمر خاص هو رجم اليهوديين اللذين زنيا، وأراد اليهود الترخيص لهما، فأنكروا الرجم، وتحاكموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فبحث عليه الصلاة والسلام في كتبهم، وأطلعهم على آية الرجم، وبيّن لهم كذبهم وتحريفهم في كتاب اللّه، ثم رجم اليهوديين وقال :«اللهم إني أول
(٢) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٣/ ٦٢٢)، كتاب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي حديث رقم (١٣٣٦)، وأحمد في المسند (٥/ ٢٧٩).