ص : ٣٧٩
اللذين خيّر فيهما عليه الصلاة والسلام، وكانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف، كالجلد بدل الرجم، فإذا أعرض عنهم شق ذلك عليهم، وتغيظوا منه، وربما يقصدونه بالأذى، فأخبره اللّه تعالى بأنه إن رأى الإعراض عنهم فلا بأس عليه، فإنّهم لا يضرونه بشيء أبدا، وقدم حال الإعراض للمسارعة إلى أنه لا ضرر عليه فيه، وإن كان مظنة الغيظ والحقد، ثم قال : وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل الذي جاءت به الشرائع، أو جاء به الإسلام إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين الذين يحاربون المظالم.
وهاهنا أمور :
الأول : أنّ المحكّم ينفذ حكمه فيما حكّم فيه، فإنّ اليهود حكّموا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ونفذ حكمه فيهم.
الثاني : أنه عليه الصلاة والسلام حكم بينهم بشريعة موسى عليه الصلاة والسلام، ولكن كان ذلك قبل أن تنزل عليه الحدود، أما الآن وقد أكمل اللّه الدين، وتقررت الشريعة، فلا يجوز لأي محكّم أن يحكم بغير الأحكام الإسلامية، لا فرق بين المسلمين وغيرهم.
والثالث : قال الإمام الشافعي : التحكيم جائز، ولكن الحكم غير لازم، وإنما هو فتوى، فإن شاء المستفتي عمل بها أو تركها.
قال اللّه تعالى : وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) قال النيسابوري : وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ تعجيب من اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم من تحكيمهم لوجوه :
منها عدولهم عن حكم كتابهم.
ومنها رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدونه مبطلا.
ومنها إعراضهم عن حكمه بعد أن حكّموه، وهذا غاية الجهالة ونهاية العناد.
والواو في قوله : وَعِنْدَهُمُ للحال من التحكيم والعامل ما في الاستفهام من التعجيب.
أما قوله : فِيها حُكْمُ اللَّهِ فإما أن ينتصب حالا من التوراة على ضعف وهي مبتدأ، خبره عِنْدَهُمُ.
وإما أن يرتفع خبرا عنها، والتقدير وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ ناطقة بحكم اللّه، فيكون عِنْدَهُمُ متعلقا بالخبر.