ص : ٤٠٤
ولو لا ما فرض اللّه من الحج والنّسك ما استطاع أحد أن يقيم فيه، وقد جعل اللّه الدعاء فيه مقبولا، والحسنات فيه مضاعفة، لتشتد رغبة الناس فيه، فيزيد الخير، وتعم البركة. هذا إلى ما في اجتماع الناس ومجيئهم من البلاد النائية، والأقطار المختلفة من منافع دونها منافع المؤتمرات التي يلجأ إليها الناس اليوم لتعرّف وجوه مصلحة المجتمع، انظر كيف قال اللّه تعالى : وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ [الحج : ٢٧، ٢٨] ولا تنس ما في أعمال الحج من منافع، حيث يتجرد الناس عن أمور الدنيا، لا يحملهم شيء على هذا التجرد إلّا تقوى اللّه، والمبادرة إلى امتثال أمره. يتذكرون باجتماعهم وتجرّدهم هول المحشر، والوقوف بين يدي ربهم، فتشتد خشيتهم، ويعظم خوفهم، فيتجنبون الموبقات والآثام.
قال سعيد بن جبير : من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة أصابه.
وأخرج ابن جرير «١» عن ابن زيد قال : كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض، ولم يكن في العرب ملوك كذلك. فجعل اللّه لهم البيت الحرام قياما يدفع به بعضهم عن بعض. فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه عنده ما قتله.
وتعظيم البيت وجعله أمنا للخائف وملجأ للعائذ، أمر أودعه اللّه في قلوب الناس منذ القدم، وليس هناك ما يمنع الناس من الاعتداء غير ما أودعه اللّه في القلوب من الهيبة والجلال، وتعظيم البيت. وقد طبع الناس على الشر، فلا يكبح جماحهم في نفوسهم إلا امتثال أمر اللّه. وبذلك أمكن أن يعيش الناس في هذه الأرض الجرداء.
فسبحان المدبر الحكيم.
وَالشَّهْرَ الْحَرامَ معطوف على الكعبة، والمعنى وجعل الشهر الحرام قياما للناس، والمراد منه الشهر الذي يؤدّى فيه الحج، أو الجنس فيشمل الأشهر الأربعة، وقد عرفت أنّ المراد من القيام الصلاح في الدنيا والآخرة. ولا شكّ أنّ الشهر الحرام كذلك حيث يقوم فيها الحاج ممتثلا أمر ربه، ويقدم النسك، فينتفع، وينتفع الناس، ويأمن الخائف، حيث إنهم كانوا يأمنون فيها، ويتصرفون في معايشهم، فهو قيام للناس أيضا وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ معطوف على ما قبله أيضا وَالْهَدْيَ ما يهدى إلى الحرم ولا شك أنّه قيام للناس، به يقيم الفقر صلبه وَالْقَلائِدَ جمع قلادة والمراد بها ما يقلّد به البعير، وما كانوا يفعلونه من تقليد أنفسهم ومطيّهم بلحاء الشجر، حتى لا يتعرض لهم أحد بسوء، وقيل : بل المراد من القلائد ذوات القلائد، وخصت بالذكر لأنّ بها يعرف كون الهدي هديا، فلا يتعرّض له أحد بسوء حتى يبلغ محلّه، فيؤدي الغرض