ص : ٤٤
الثاني
ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال :«ما بين المشرق والمغرب قبلة» «١».
الثالث فعل الصحابة. وهو من وجهين :
أحدهما : أن أهل مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح مستقبلين لبيت المقدس مستدبرين للكعبة، لأنّ المدينة بينهما، فقيل لهم : ألا إنّ القبلة قد حوّلت إلى الكعبة، فاستداروا في الصلاة من غير طلب دليل على القبلة، ولم ينكر النبي عليه الصلاة والسلام عملهم «٢». وسمي مسجدهم بذي القبلتين، ولا يعقل أن العين تستقبل عين الكعبة إلا بعد الوقوف على أدلة هندسية يطول النظر فيها، ولم يتعلّموها، ولا يمكن أن يدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وظلمة الليل.
والوجه الثاني : أنّ الناس من عهد النبي عليه السلام بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام، ولم يحضروا مهندسا عند تسوية المحراب، ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة.
الدليل الرابع من أدلة الحنفية القياس : هو أن محاذاة عين الكعبة لو كانت واجبة ولا سبيل إليها إلا بمعرفة الطرق الهندسية لوجب أن يكون تعلم الدلائل الهندسية واجبا، لأنه لا يتم الواجب إلا به، وما لا يتمّ الواجب إلا به واجب، ولكنّ تعلّم الدلائل الهندسية غير واجب، فعلمنا أنّ استقبال عين الكعبة غير واجب، هذا مجمل أدلة الأئمة رضوان اللّه عليهم، وأنت ترى أنه ربما كان لفظ الآية، وكون (الشطر) بمعنى الجهة شاهدين يرجّحان أدلة الحنفية والمالكية.
وكأنّ الشافعية أحسوا صعوبة التوجه إلى عين الكعبة خصوصا من غير المشاهد.
فقالوا : فرض المشاهد إصابة العين حسّا، وفرض غير المشاهد إصابته قصدا. وبعد أن نراهم يصرحون بذلك يكاد الخلاف عديم الفائدة، فإنّ الكل يعتقد أن التوجه إلى القبلة أيا كانت فيه شعور بقصد الكعبة.
هذا وقد انبنى على هذا الخلاف خلاف آخر في حكم الصلاة فوق الكعبة، فمشى الحنفية على مذهبهم من أن القبلة الجهة، من قرار الأرض إلى عنان السماء، فأجازوا الصلاة فوقها مع الكراهية، لما في الاستعلاء عليها من سوء الأدب، ومنع غيرهم من صحة الصلاة فوقها، لأن المستعلي عليها لا يستقبلها، إنما يستقبل شيئا غيرها، وبقية الفروع تعرف في الفقه، فلا نطيل بذكرها، غير
(٢) سبق تخريجه.