ص : ٤٨٣ هذا تلخيص ما قالوه، والمعنى حسن في نفسه إلا أن حمل الكلام عليه بعيد، لأنّ الجدل في لسان العرب هو الخصومة، وتخصيصه بالقياس المؤلف من المسلمات اصطلاح منطقي حادث، ولا يسوغ حمل ألفاظ القرآن على الاصطلاحات الحادثة، ولا يصحّ فهمها إلا مراعى فيها معانيها التي وضعتها لها العرب، وما أرادوه يصحّ أن يكون داخلا في الحكمة، فإنّ المراد بها الطريق المحكم في الدعوة، ولا إحكام في الدعوة إلا إذا خوطب الناس بما يفقهون، فلا يخاطب العوام بالجدل والبرهان، ولا كل صنف من الناس إلا بما هو لائق به.
ومن ذلك يعلم أن القائم بالدعوة ينبغي أن يكون على حظّ عظيم من علم النفس وعلم الاجتماع وطبائع الأفراد والأمم، فإنّه ليس شيء أنجع في الدعوة من معرفة طبائع الناس وميولهم، وتغذية هذه الطبائع والميول بما يناسبها.
ومن الحمق أن يظنّ أن الناس متساوون في القدرة والأفهام فيما إذا خوطبوا على درجة واحدة من الخطاب، وكما أن الأمراض مختلفة، وأدويتها كذلك مختلفة، وليس دواء واحد نافعا لكل مرض ولكل مريض، كذلك أمراض النفوس، تحتاج إلى علاجات مختلفة، وتركيبات متباينة، وربّ دواء أفاد إنسانا، وأضر بآخر، وربما أفاده في وقت، وأضر به في آخر، ومدار الأمر على معرفة الداعي أنّ الغرض من القول الإفهام والتأثير، فيسلك لذلك سبله، وعلى أن يكون عنده عقل مفكر، ولسان مؤثر، سنذكر حديثا يدل على مقدار رفق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في الدعوة، ومقدار نجاح هذا الرفق.
روى أبو أمامة أنّ غلاما شابا أتى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : يا نبي اللّه، أتأذن لي في الزنى؟ فصاح الناس به، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم :«قرّبوه إذن» فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم :«أ تحبه لأمك» قال : لا جعلني اللّه فداك، قال :«كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك» قال : لا جعلني اللّه فداك. قال :«و كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم أتحبه لأختك» قال : لا جعلني اللّه فداك. قال :«و كذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم» فوضع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يده على صدره وقال :«اللهم طهّر قلبه، واغفر ذنبه، وحصّن فرجه» فلم يكن شيء أبغض إليه منه «١».
وينبغي أيضا أن يكون الداعي شجاعا في الحق فلا يهن، صارما في الصدق، فلا يضعف، مخلصا فانيا في مبدئه فلا يبيعه بزخارف الدنيا وزينتها.
والمثل الأعلى في ذلك صاحب الدعوة الإسلامية فقد اعترضوا سبيل الدعوة.
بكل أنواع الإيذاء، وفتنوا المؤمنين. فلم يثن ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن عزمه، وصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.