ص : ٤٩٥
منها، بل ينبغي لهم أن يواسوا الفقراء والبائسين، وأن يشاركوهم في الأكل منها، ولا يترفّعوا عليهم، وأنه يجب عليهم أن يتحلّلوا من قيود الإحرام متى فرغوا من المناسك الواقعة قبل الطواف، وأنه يجب عليهم أيضا أن يوفوا بما التزموه بالنذر من ذبح وغيره. وأن يطوفوا بالبيت طواف الإفاضة، أو طواف الوداع على ما قيل.
قد يقال : إنه لم يكن حول الكعبة حينذاك أحد يسمع نداء سيدنا إبراهيم، فكيف يؤمر بهذا النداء الذي يذهب في الفضاء؟
والجواب أن اللّه سبحانه وتعالى قد أيدّ رسله بالمعجزات الخارجة عن مجرى العادات، فهو سبحانه قادر على أن يوصل صوت إبراهيم إلى من يشاء في تلك النواحي البعيدة، والأصقاع المترامية.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس «١» قال : لما فرغ إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بناء البيت قال :
ربّ قد فرغت، فقال : أذّن في الناس بالحج. قال : يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال تعالى : أذّن وعليّ البلاغ. قال : رب كيف أقول، قال : قل يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه أهل السماء والأرض، ألا ترى أنهم يجيبون من أقصى البلاد، يلبون.
على أنا نشاهد اليوم آلات الإذاعة تنشر الأصوات في جميع بقاع الأرض، فلا تحجزها جبال، ولا تضعفها بحار ولا قفار، فمن يشاهد هذه الحقائق التي يستطيعها كل من يزاول علومها، لا يمكنه أن يكابر في معجزات الأنبياء.
هذا، وقيل إنّ المخاطب بالتأذين والدعوة إلى الحج هو نبينا محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، وأنه أمر بذلك حينما عزم على الحج في السنة العاشرة من الهجرة، وأن نظم الآية مع التي قبلها لا يأباه، إذ المخاطب في قوله تعالى قبل هذه الآية : وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ هو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، ويكون المعنى حينئذ : واذكر يا محمد إذ بوأنا لإبراهيم، وأذن في الناس بالحج، ولكنك ترى أنّ في الآية الأولى أوامر ونواهي كلها متوجهة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فالظاهر أنّ الأمر بالتأذين أيضا لإبراهيم، إذ الغرض من تطهير البيت إعداده للطائفين والقائمين والركع السجود، فيكون دعاؤه الناس بعد ذلك للحج متناسبا غاية التناسب مع إعداد البيت وتطهيره.
وبعض العلماء ردّ احتمال توجيه الخطاب إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بأن سورة الحج مكية، فنزولها قبل حجة الوداع بالضرورة، فلا يستقيم أن يكون المأمور بالدعاء هو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.