ص : ٥٣٦
وكان لكل من جهتيه حكم فإنّه إذا أوجب أعظم الأمرين بجهة خصوصه لا يوجب أدونهما بجهة عمومه : مثاله خروج المني من القبل لمّا أوجب أعظم الأمرين وهو الغسل بخصوص كونه خروج مني لم يوجب أدونهما وهو الوضوء بعموم كونه خارجا، كذلك زنى المحصن لما أوجب أعظم الحدين وهو الرجم بخصوص كونه زنى محصن لم يوجب أدونهما وهو الجلد بعموم كونه زنى.
أقوال الفقهاء في النفي
علمت أن الحنفية «١» يقولون : إنّ النفي ليس من الحد في شي ء، وإنه مفوّض إلى رأي الإمام، وحجتهم في ذلك ظاهر الآية الكريمة، فإنها اقتصرت في مقام البيان على مئة جلدة، فلو كان النفي مشروعا لكان ذلك نسخا للكتاب، وجميع ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في النفي لم يخرج عن كونه من أخبار الآحاد، وأخبار الآحاد لا تقوى على نسخ الكتاب، ولو كان النفي حدّا مع الجلد لكان من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم توقيف للصحابة، لئلا يعتقدوا عند سماع التلاوة أنّ الجلد هو جميع الحد، ولوجب أن يكون وروده في وزن ورود نقل الآية وشهرتها. فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة، بل كان وروده من طريق الآحاد ثبت أنه ليس بحد.
وقد روى الستة «٢» غير النسائي عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي اللّه عنهما قالا : سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال :«إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير».
قال مالك : الضفير الحبل، وفي رواية :«فليجلدها ولا تثريب عليها»
فظاهر الحديث أنّ الجلد هو تمام الحد، ولو كان النفي من الحد لذكره النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه غرّب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر، فلحق بهر قل فقال عمر : لا أغرب بعدها أحدا ولم يستثن الزنى.
وروي عن علي كرّم اللّه وجهه أنه قال في البكرين إذا زنيا : إنهما يجلدان ولا ينفيان، وإنّ نفيهما من الفتنة.
فإذا كانت الأخبار المثبتة للنفي معارضة بما سمعت، وهي بعد لم تخرج عن كونها أخبار آحاد، فليس بجائز أن نزيد في حكم الآية بهذه الأخبار، لأنّه يوجب
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ٣٢٨)، ٢٩ - كتاب الحدود، ٦ - باب رجم اليهود حديث رقم (٢٠/ ١٧٠٣)، والبخاري في الصحيح (٨/ ٣٧)، ٨٧ - كتاب الحدود، ٢١ - باب إذا زنت الأمة حديث رقم (٦٨٣٩)، والترمذي في الجامع الصحيح (٤/ ٣٠)، كتاب الحدود، باب الرجم حديث رقم (١٤٣٣)، وأبو داود في السنن (٤/ ١٥٥)، كتاب الحدود، باب في الأمة تزني حديث رقم (٤٤٦٩)، وابن ماجه في السنن (٢/ ٨٥٧)، ٢٠ - كتاب الحدود، ١٤ - باب إقامة الحدود حديث رقم (٢٥٦٥).