ص : ٧١٢
شك أنه يكون أشنع، وماذا تكون الشناعة إذا كان الأخ ميتا؟ إنّها تكون شناعة ما فوقها شناعة.
فقد بيّن اللّه بهذا المثل أوضح بيان أنّ وقوع المغتاب في عرض الناس بذكر معايبهم يشبه أن يكون أكلا للحومهم، وهم إخوته، وليتهم كانوا حاضرين، بل هو إنما ينهش أعراضهم وهم غائبون، فهو كالكلب ينهض لحوم الجيف. ولو عقل الناس هذا المثل، وما استعمل فيه من طرق التنفير ما أقدموا على الغيبة.
والفاء في قوله تعالى : فَكَرِهْتُمُوهُ فإن الفصيحة مقدّر معها (قد) وهي واقعة في جواب شرط مقدّر، أي إن عرض لكم هذا فقد كرهتموه، ولا يمكنكم إنكار كراهته.
وبعضهم : إنّ المعنى فأنتم تكرهونه، ويكون الكلام تصريحا بجوابهم عن الاستفهام، كأنّهم قالوا : لا نحب، فقال اللّه تعالى : فأنتم كرهتموه، وعبر بالماضي للمبالغة.
وَاتَّقُوا اللَّهَ عطف على مقدّر، كأنه قيل : امتثلوا ما أمرتم به، ونهيتم عنه، واتقوا اللّه إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ تعليل للأمر بالتقوى، وتوّاب : معناه كثير القبول لتوبة من تاب.
والغيبة محرّمة بنص إلهيّ في الآية الكريمة، وقد نقل القرطبي «١» الإجماع على أنها من الكبائر. والغزالي : يرى أنّها من الصغائر، وهو عجيب من عمدة الأخلاق الغزالي، ولعلّه أراد أن يخفف على الناس لمّا رأى فشوها فيهم، لا يخلو منهم من لا يرتكبها إلا النادر، ولكنّا ما علمنا أنّ إطباق الناس على منكر يكون سببا في تخفيفه ولو لم يرد فيها من دلائل التحريم غير ما ذكر في هذه الآية وأنّها من أشنع القبائح لكان ذلك كافيا في كونها من الكبائر.
وليس لأحد أن يتعلّق بما ورد من
قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد «٢» عن أبي بكرة أنّه قال : بينما أنا أماشي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وهو آخذ بيدي، ورجل عن يساري، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :«إنّهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير» وبكى إلى أن قال : وما يعذبان إلا في الغيبة والبول
إذ المراد أنهما ما كان يكبر عليهما أن يتجنّبا سبب هذا العذاب، فكان أحدهما لا يستنزه من البول، وإنّه ليسير، وكان الآخر لا يبتعد عن الغيبة، وما هو عليه بعسير.
ولو أنّ الإمام الغزالي رحمه اللّه ذهب إلى أنّ بعضها ليس بكبيرة، بل هو من الصغائر لكان الأمر هينا فإنّك عرفت أنّ الغيبة إنما نهي عنها من أجل الإيذاء، وهو مراتب، فلن يكون ذكر معايب الثوب أو القربة مثلا ببالغ حدّ الخوض في العرض من جهة الإيذاء، فالغيبة حرام، ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة والاستغفار منها.
(٢) رواه الإمام أحمد في المسند (٥/ ٣٩).