ص : ٧٢١
للمصحف أمر يكاد يجمع عليه، ومن أجازه من الفقهاء أجازه لضرورة التعلم، أو التعبد عند بعضهم، وقد يكون الحكم مسلّما لا اعتراض عليه، إنما الذي لا يسلّم هو أن يكون الحكم مأخوذا من هذه الآية، فإنّك لمست ما فيها من احتمالات كثيرة، بل ويرجّح بعض العلماء أن الكتاب هو اللوح المحفوظ، وأنّ الضمير في (يمسه) راجع إليه، وأنّه حتى على فرض أن الكتاب القرآن، فليس هو المصحف، بل هو المصحف الذي بأيدي الملائكة، ولئن كان هو المصحف فالمطهرون يحتمل أن يراد منهم المؤمنون، ويراد من المس الإدراك، ويكون المعنى لا تفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرام على القلوب الملوثة أن تجد نور الإيمان. قال البخاري في هذه الآية : لا يجد طعمه إلا من آمن به.
وقد رجّح العلماء أنّ المراد من الكتاب الكتاب الذي بأيدي الملائكة، على نحو ما هو مذكور في قوله تعالى : فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) [عبس : ١٣ - ١٦] والكتاب بهذا المعنى هو الذي يصحّ وصفه بأنه لا يمسه إلا المطهرون، إذ هو بأيديهم، وأما غيرهم فهم لا يمسونه، لأنه ليس في متناولهم، وقد ذكروا في ترجيح ذلك وجوها كثيرة.
منها أن الآية سيقت تنزيها للقرآن عن أن تنزيل به الشياطين، وأنّه في محل مضمون لا يصل إليه فيمسه إلّا المطهرون، وأما الأخبثون من خلقه، فلا يصلون إليه، ويكون ذلك على حد قوله تعالى : وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) [الشعراء : ٢١٠، ٢١١] أفرأيت كيف نفى اللّه ابتغاء مجيئهم به، ونفى استطاعتهم أن ينزلوا به، وكذلك آية عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) [عبس : ١] التي أسلفنا لك ذكرها.
ومن وجوه الترجيح : أنّ السورة مكية، ومعلوم أنّ القرآن في مكة أكثر عنايته كان موجها إلى أصول الدين : من تقرير التوحيد، والمعاد والنبوة. وأما الأحكام، وبخاصّة ما يتعلق منها بمس الأشياء في تفاصيل جزئية فمردّه إلى المدني من السور.
ومن وجوه الترجيح : أن القرآن في أول نزوله لم يكن جمع في مصحف، بل لم يكن تمّ نزولا حتى يكون الناس في حاجة إلى بيان حكم مس المصحف، نعم إنه يحتمل أن يكون خبرا عما يكون.
ومن الوجوه أيضا : أنّ اللّه تعالى قال في وصف الكتاب : مَكْنُونٍ وذلك كناية عن الصون والستر عن الأعين، لا تناله أيدي البشر. اسمع قول الكلبي في تفسير الآية، قال : هو مكنون من الشياطين. وقال مجاهد : مكنون لا يصيبه تراب ولا غبار، هل ترى أنّ المصحف لا يمسه غبار، أم ذاك خبر عن شيء في السماء؟ قال أبو إسحاق : مصون في السماء.