ص : ٧٩٢
وإن كانت الآية عامة في الرجعيات والبوائن، فليس هذا أوّل موضع خصّص فيه الكتاب بالسنة، فآية المواريث خصّصت بالسنة الدالة على أن الكافر والقاتل والرقيق لا يرثون، وقوله تعالى : وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء : ٢٤] خصّص بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم :
«لا تنكح المرأة على عمتها» الحديث.
وأما أنّ روايتها تضمنت مخالفة السنة فلا نجد سنة مخافة لحديث فاطمة، إلا روايتين عن عمر رضي اللّه عنه :
إحداهما : قوله لا ندع كتاب ربّنا وسنة نبينا، وهذا له حكم المرفوع.
والثانية : قوله سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول :«لها السكنى والنفقة».
أما الرواية الأولى عن عمر فقد قال فيها الإمام أحمد رحمه اللّه : لا يصحّ ذلك عن عمر رضي اللّه عنه وقال أبو الحسن الدار قطني قوله :«و سنة نبينا» هذه زيادة غير محفوظة، لم يذكرها جماعة من الثقات، بل السنة بيد فاطمة بنت قيس قطعا، ومن له إلمام بسنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يشهد شهادة اللّه أنه لم يكن عند عمر رضي اللّه عنه سنة عن رسول اللّه أنّ للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة.
وأمّا الرواية الثانية : فلم يخرّجها فيما نعلم إلا ابن حزم والجصّاص عن حماد عن إبراهيم أنّ عمر إلخ ومعلوم أنّ إبراهيم لم يولد إلا بعد وفاة عمر بسنين، فالخبر منقطع، وقد أنكره علماء الحديث، وصرّح ابن القيم بأنّه مكذوب على عمر، وأنه لو كان هذا عند عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لخرست فاطمة وذووها، ولما فات هذا الحديث أئمة الحديث والمصنفين في السنن والأحكام، فإن كان مخبر أخبر به إبراهيم عن عمر رضي اللّه عنه، وأحسنّا به الظن، كان قد روى قول عمر بالمعنى، وظنّ أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هو الذي حكم بثبوت النفقة والسكنى للمبتوتة حين قال عمر : لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة.
وقد تناظر في هذه المسألة ميمون بن مهران وسعيد بن المسيّب فذكر له ميمون خبر فاطمة بنت قيس فقال سعيد : تلك امرأة فتنت الناس.
فقال له ميمون : لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما فتنت الناس، وإنّ لنا في رسول اللّه أسوة حسنة اه.
ولا نعلم أحدا من الفقهاء إلّا وقد احتجّ بحديث فاطمة بنت قيس هذا، وأخذ به في بعض الأحكام. وقد ذكر النووي في «شرحه على صحيح مسلم» ستة عشر حكما استنبطها العلماء من هذا الحديث.
وإذا قد تبيّن أنّ هذه المطاعن مردودة ولم يقدح شيء منها في صحة الحديث لزم القائلين بوجوب السكنى والنفقة للمبتوتة أن يجمعوا بينه وبين الآية ما أمكنهم الجمع، وإلا فالنسخ أو التخصيص.


الصفحة التالية
Icon