ص : ٨٠
والقول الثاني : أن مفعول شهد هو الشهر، والتقدير : فمن شهد الشهر وشاهده بعقله وبمعرفته فليصمه، وهو كما يقال شهدت عصر فلان وأدركته، وهو تفسير لا غبار عليه بعد أن تعرف أن خطابات اللّه جميعا تتوجّه إلى المكلفين، فلا عبرة بما قيل : إنه كالأول فيه مخالفة للظاهر لاحتياجه للتخصيص، إذ يقال : للصبي المجنون إنه أدرك الشهر، نعم هم مدركون، ولكنّهم لا يدخلون تحت قوله : مِنْكُمُ إذ إنّ كون كل خطابات الشارع متوجهة إلى من يأتي تكليفهم قد فرغ منه، فمثله مثل وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة : ٤٣، ٨٣، ١١٠] على أنه على فرض دخول هؤلاء، فالآية تكون مخصوصة على هذا الوجه. وعلى الوجه الأول فيها تقدير محذوف.
وقد تقرر في الأصول أنه إذا تعارض التخصيص والإضمار، تعيّن المصير إلى التخصيص، وبدهي أن القول الأول يلزمه أن الآية لا توجب الصوم إلا على المقيم، فلا يكون صوم المسافر مسقطا للواجب، بل يكون الواجب في حقه الفطر، وهذا كلام قد نسب إلى الإمام علي - كرم اللّه وجهه - القول به. والجمهور يرون الآية عامة في المكلفين، وهي تشمل المسافر والمقيم، غير أن المسافر يترخّص بالفطر كالمريض، وعليهما عدة من أيام أخر.
هذا وظاهر الآية يفيد أن الصيام إنما يجب بشهود جميع الشهر، وذلك غير متأتّ، إذ إنّ شهود جميع الشهر لا يتأتّى إلا بعد انقضائه، وبعد انقضائه لا يتأتى لأحد أن يصوم ما مضى، فمن هنا قالوا : إنه يتعين أن يكون المعنى فمن شهد بعض الشهر فليصمه، غير أنهم اختلفوا، فقال بعضهم : المراد بالبعض أوّل الشهر. وهو منسوب للإمام علي، وعلى ما تقدم على مذهبه يلزم أن يكون الحكم في حق من كان مسافرا أوّل الشهر أنه لا يجب عليه صيام الشهر، بل يجب عليه الفطر.
ويرى الجمهور أن أيّ بعض يكفي في وجوب الصوم، غير أنهم اختلفوا، فالحنفية يرون أن صوم جميع الشهر يجب بشهود أيّ جزء منه، ويرى الشافعية أن شهود أي جزء موجب لصوم ذلك الجزء على الراجح من مذهبهم.
بعد هذا نقول : إنّ الأئمة رضوان اللّه عليهم قد اختلفوا فيمن جنّ في رمضان، ولا بد أن نعرض لهذا الخلاف فنقول : اتفقوا على أنّ من جنّ كلّ رمضان لا يجب عليه الصوم في الحال، لعدم إمكان توجّه الخطاب إليه حالا، واختلفوا فيه إذا أفاق بعد رمضان، قال المالكية وجماعة : إنه يقضي ما مضى ولو جنّ سنين. وقال غيرهم :
إنه لا قضاء عليه لما مضى، كالصبي إذا بلغ، والكافر إذا أسلم.


الصفحة التالية
Icon