ص : ٨١٨
قال اللّه تعالى : إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (٧) السبح في الأصل : الذهاب في الماء، والتقلّب فيه. ويصحّ أن يطلق عن القيد، فيستعمل في مطلق الذهاب والتقلّب. وعلى هذا يكون معنى الآية : إنّ لك في النهار شغلا كثيرا، وتقلبا في أعمال متنوعة لا تستطيع معها أن تقوم في النهار بما يريده منك من تلك العبادات الخاصة، فلذلك كتبناها عليك في الليل، فيكون هذا تيسيرا على النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وبيانا للحكمة في التخفيف عنه، إذ لم يجمع عليه في النهار بين تلك العبادات وبين ما هو موكول إليه من الأعمال.
ويصحّ أن يكون الغرض توكيد أمر القيام عليه، وأنه يجب أن يتفرّغ له بالليل، إذ يكفي أن يكون له من النهار فسحة طويلة يزاول فيها ما شاء من الأعمال. أما الليل فيجب أن يتوفّر فيه على القيام بحقّ اللّه وعبادته.
قال اللّه تعالى : وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (٨) التبتل : الانقطاع، يقال بتله وبتّله بالتخفيف والتشديد، بتلا وتبتيلا، فانبتل وتبتّل، ومنه البتول للعذراء المنقطعة عن الأزواج، أو المنقطعة للعبادة.
يأمر اللّه سبحانه وتعالى نبيّه أن يداوم على ذكر اللّه بالتسبيح والتحميد والتهليل وقراءة القرآن، فلا يشغله عن ذلك شاغل في ليله ولا نهاره، وأن يجعل همّه كله في إرضاء ربه، ويجرد نفسه عن التعلق بغيره، ويستغرق في مراقبته في كل ما يأتي وما يذر من الأعمال.
وليس المراد أن ينقطع حتى عن أعمال النهار، ويعكف على الذكر والعبادة، فإنّه يتنافى مع قوله تعالى في الآية السابقة : إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (٧) بل المراد التنبيه إلى أنّه ينبغي ألا يشغله السبح في أعمال النهار عن ذكر اللّه.
هذا وإنما قيل : تَبْتِيلًا ولم يقل : تبتلا، حتى يتفق مع الفعل قبله، مراعاة للفواصل، وللدلالة على أنّ التبتل والانقطاع يحتاج إلى عمل اختياري منه صلّى اللّه عليه وسلّم، بأن يجرّد نفسه عن التعلق بغير اللّه تعالى، ويحصر همه في مراقبته جلّ شأنه، فيحصل التبتل الذي هو أثر لذلك. وقد يقال : فلما ذا لم يقل : وتبتل إليه تبتيلا حتى يوافق الفعل مصدره؟
والجواب : إنّ ذلك للإشارة إلى أنّ المقصود الأهم إنما هو حصول ذلك الأثر، وهو التبتل.
قال اللّه تعالى : إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى