ص : ٨٢٠
بل كان عن محض الضرورة، بسبب أنهم لم يمكنهم ضبط مقادير الزمان مع عذر النوم لم يكن إثما، وانتفت فيه المؤاخذة، وعلى هذا يكون التخفيف عنهم بسبب هذه الضرورة، وهي عدم قدرتهم على إحصاء الوقت وضبط ساعات الليل.
وبعد فلا تناقض بين القراءتين، فإنّ الآية ليست حديثا عما أمروا به من القيام، بل هي إخبار عن الواقع الذي كان يحصل منهم. وهم كانوا أحيانا يقومون ثلث الليل، ويقومون نصفه، ويقومون قريبا من ثلثيه، وأحيانا يقومون أقلّ من ثلثه، وأقلّ من نصفه، ظنا منهم أنهم وفوا في قيامهم أقلّ من الثلث بالقدر المأمور به، لعدم ضبط الزمن، وتحديد مقاديره. فقراءة النصب توافق الحالات الأولى، وقراءة الجرّ تنزّل على الحالات الثانية.
وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وهذا معطوف على الضمير المستكنّ في تَقُومُ وهو وإن كان ضمير رفع متصل، قد سوغ العطف عليه الفصل بينه وبين المعطوف، والمعنى :
أنّ اللّه يعلم أنّه كان يقوم كذلك جماعة من الذين آمنوا بك، واتبعوا هداك.
وقد يقال : إنّ هذا يدلّ على أنّ قيام الليل لم يكن فرضا على جميع الأمة، وهو خلاف ما تقرّر تفسيره في أول السورة، ويخالف أيضا ما دلّت عليه الآثار المتقدمة هناك.
والجواب : أنه ليس في الآية ما يفيد أنّ الصحابة رضوان اللّه عليهم كانوا جميعا يصلّون مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم صلاة التهجد في جماعة واحدة، فلعلّ بعضهم كان يقيمها في بيته. فلا ينافي ذلك فرضية القيام على الجميع.
وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ الكلام هنا على الحصر والاختصاص، أي أنّ اللّه هو وحده الذي يقدّر الليل والنهار، يعلم مقاديرهما وأجزاءهما، وما مضى من كلّ، وما بقي على التعيين والتحديد.
وهذا الاختصاص - على ما يقول الزمخشري «١» - مستفاد من تقديم اسم الجلالة مبتدأ، وبناء الفعل عليه.
أما غير الزمخشري فإنه ينكر عليه مذهبه هذا في الاختصاص، إذ إنّه إذا قيل :
محمد يحفظ الدرس، أو يتفقه على فلان، لم يفد ذلك أنه هو وحده الذي يحفظ ويتفقه. فالحصر في الآية مستفاد من سياق الكلام ودلالة المقام.
عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ إحصاء الأشياء عدّها، والإحاطة بمقدارها، ويصحّ أن يستعمل في القدرة على الفعل وإطاقته، وكلّ من المعنيين سائغ في الآية.

(١) انظر تفسير الكشاف للزمخشري (٤/ ٦٤٣).


الصفحة التالية
Icon