ص : ٩٠
القرص يكون النهار بطلوع القرص، ويزعم أن المراد من الخيط الأبيض النهار، ومن الخيط الأسود الليل. ولا ندري ما الحكمة إذا من اختيار لفظ الخيط، وهل النهار عند طلوع الشمس يقال : إن بياضه كالخيط الأبيض! إن هذا لعجيب حقا؟
وأعجب منه زعم من زعم أنّ المراد من الخيط الأبيض طلوع الفجر حقيقة، ولكنه يرى أنه لا يحل الفطر إلا بعد وجود عتمة الليل وظلمته وظهور النجوم، لأنه فهم من قوله : أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أن المراد الظلمة، وكأنّه لا يرى أن ما بين غروب الشمس ومجيء الظلمة من الليل.
والحمد للّه، انقرضت هذه المذاهب، وانعقد الإجماع على عدم العمل بها، فإنّه على فرض أن الآية تحتمل ما زعموا، فقد جاء في بيان الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وعمله وعمل أصحابه ما فصل به الليل عن النهار، واستبان به وضح الصبح من ظلمة الليل.
هذا وقد اختلف أهل العلم في حكم الشاكّ في الفجر، فذكر أبو يوسف في «الإملاء» أن أبا حنيفة قال : إن يدع الرجل السحور إذا شك في الفجر أحب إليّ، فإن تسحر فصومه تام وهو قولهم جميعا في «الأصل» وقال : إذا أكل فلا قضاء عليه.
وحكى محمد بن سماعة «١» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة : إن أكل وهو شاك قضى يوما مكانه، وقال أبو يوسف : ليس عليه في الشكّ قضاء.
وقال الحسن بن زياد عن أبي حنيفة : إنّه إن كان في موضع يستبين به الفجر، ويرى مطلعه من حيث يطلع، وليس هناك علّة، فليأكل ما لم يستبن له الفجر، وهو قول اللّه تعالى : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، وإن كان في موضع لا يرى فيه الفجر، أو كانت ليلة مقمرة، وهو شاك، فلا يأكل، وإن أكل فقد أساء، وإن كان أكبر رأيه أنه أكل والفجر طالع قضى، وإلّا لم يقض : وهذا قول زفر وأبي يوسف. قال أبو بكر الرازي «٢» : وبه نأخذ، وقال : ينبغي أن تكون رواية «الأصل» ورواية «الإملاء» في كراهيتهم الأكل مع الشك محمولتين على ما رواه الحسن بن زياد، لأنّه فسّر ما أجملوه، ولأنها موافقة لظاهر الكتاب.
وقد روي عن ابن عباس أنه بعث رجلين لينظرا له طلوع الفجر، فقال أحدهما :
طلع، وقال الآخر : لم يطلع، فقال : اختلفتما وأكل، وكذلك روي عن ابن عمر.
والأصل في ذلك أنّ الآية جعلت حلّ الأكل ملغيّا بالتبيّن، وهو حصول العلم الحقيقي، ومعلوم أنّ ذلك إنما يكون عند عدم وجود المانع من حصوله، وذلك إذا كان في مكان يستطيع معه التبيّن، أما إذا كان في ليلة مقمرة، أو غيم أو في موضع
(٢) انظر أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (١/ ٢٣٠).