ص : ٩٤
ولم يختلف فقهاء الأمصار في جواز الاعتكاف في المساجد التي تقام فيها الصلوات، وظاهر الآية التي معنا عدم التفرقة بين المساجد، إذ قال : وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ففهم منها أن الاعتكاف يكون في المساجد، وتعيين أحدها يحتاج إلى الدليل، وكذا تخصيصه بمسجد الجماعة يحتاج إلى الدليل.
وغاية ما يدل عليه
قوله عليه الصلاة والسلام :«لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد» «١»
أنه يدلّ على تفضيل هذه الثلاثة عما عداها، أو عدم شدّ الرحال إلا إليها، وهل الاعتكاف لا يكون إلا بشدّ الرحال؟ وقد تقدّم القول بأنّ العكوف في المسجد إنما هو في حق الرجال.
وقد اختلف الفقهاء في معتكف النساء فذهب الحنفية وجماعة إلى أنه يكون في مسجد بيتها كما تقدم، وقال الشافعي : المسافر، والعبد، والمرأة يعتكفون حيث شاؤوا. والمدار في إثبات هذا أو غيره على السنة.
وقد اختلف الفقهاء أيضا في المدة التي تلزم في الاعتكاف : فقال أبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، والشافعي : له أن يعتكف يوما أو ما يشاء. وقد اختلفت الرواية عن الحنفية فيمن دخل ونوى الاعتكاف. هل يكون معتكفا أولا؟
في رواية : يكون معتكفا، وله أن يخرج متى شاء بعد أن يكون صائما في مقدار لبثه، وفي الرواية الأخرى : عليه أن يتمّه يوما، هكذا نقله أبو بكر الرازي «٢».
والمعروف عندهم في المتون والكتب أن الاعتكاف ثلاثة أقسام :
مندوب، وهو : يتحقق بمجرد النية.
وسنة، وهو : في العشر الأواخر من رمضان.
وواجب : ولا بد فيه من الصوم وهو : المنذور.
وقال مالك في رواية عنه :«لا اعتكاف في أقل من عشرة أيام، وعنه يوم وليلة»، قال أبو بكر الرازي : تقييد مدة الاعتكاف لا يصحّ إلا بتوقيف، أو اتفاق، وهما معدومان هنا، وقد اختلف السلف في أنه هل يلزم فيه الصوم أم لا؟
فروى عطاء عن ابن عباس وعائشة قالوا : المعتكف عليه الصوم. وقال سعيد بن المسيّب عن عائشة : من سنة المعتكف الصوم. وعن عليّ قال : لا اعتكاف إلا بصوم.
وقال آخرون :
يصحّ بغير صوم، روي عن علي
، وعبد اللّه، وقتادة.
(٢) انظر أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (١/ ٢٤٥).