واعلم أن الأمر بين في قولنا: ما زيد إلا قائم، أن ليس المعنى على نفي الشركة، ولكن على نفي أن لا يكون المذكور، ويكون بدله شيء آخر. ألا ترى أن ليس المعنى أنه ليس له مع القيام صفة أخرى؟ بل المعنى أن ليس له بدل القيام صفة ليست بالقيام، وأن ليس القيام منفياً عنه، وكائناً مكانه فيه القعود أو الإضطجاع أو نحوهما. فإن قلت: فصورة المعنى إذا صورته إذا وضعت الكلام بإنما فقلت: إنما هو قائم. ونحن نرى أنه يجوز في هذا أن تعطف بلا فتقول: إنما هو قائم لا قاعد، ولا نرى ذلك جائزاً مع ما وإلا، إذ ليس من كلام الناس أن يقولوا: ما زيد إلا قائم لا قاعد، فإن ذلك إنما لم يجز من حيث إنك إذا قلت: ما زيد إلا قائم، فقد نفيت عنه كل صفة تنافي القيام. وصرت كأنك قلت: ليس هو بقاعد ولا مضطجع ولا متكىء. وهكذا حتى لا تدع صفة يخرج بها من القيام.
فإذا قلت من بعد ذلك: لا قاعد، كنت قد نفيت بلا العاطفة شيئاً قد بدأت فنفيته، وهي موضوعة لأن تنفي بها ما بدأت، فأوجبته لا لأن تفيد بها النفي في شيء قد نفيته. ومن ثم لم يجز أن تقول: ما جاءني أحد لا زيد، على أن تعمد إلى بعض ما دخل في النفي بعموم أحد فتنفيه على الخصوص، بل كان الواجب إذا أردت ذلك أن تقول: ما جاءني أحد ولا زيد، فتجيء بالواو من قبل لا حتى تخرج بذلك عن أن تكون عاطفة فاعرف ذلك.
وإذ قد عرفت فساد أن تقول: ما زيد إلا قائم لا قاعد، فإنك تعرف بذلك امتناع أن تقول: ما جاءني إلا زيد لا عمرو، وما ضربت إلا زيداً لا عمراً، وما شاكل ذلك. وذلك أنك إذا قلت: ما جاءني إلا زيد، فقد نفيت أن يكون قد جاءك أحد غيره. فإذا قلت: لا عمرو، كنت قد طلبت أن تنفي بلا العاطفة شيئاً قد تقدمت فنفيته وذلك كما عرفتك خروج بها عن المعنى الذي وضعت له إلى خلافه. فإن قيل: فإنك إذا قلت: إنما جاءني زيد، فقد نفيت فيه أيضاً أن يكون المجيء قد كان من غيره، فكان ينبغي أن لا يجوز فيه أيضاً أن تعطف بلا فتقول: إنما جاءني زيد لا عمرو، قيل: إن الذي قلته من أنك إذا قلت: إنما جاءني زيد، فقد نفيت فيه أيضاً المجيء عن غيره غير مسلم لك على حقيقته، وذلك أنه ليس معك إلا قولك: جاءني زيد، وهو كلام كما تراه مثبت ليس فيه نفي البتة، كما كان في قولك: ما جاءني إلا زيد. وإنما فيه أنك وضعت يدك على زيد، فجعلته الجائي. وذلك وإن أوجب انتفاء المجيء عن غيره، فليس يوجبه من أجل أن كان ذلك إعمال نفي في شيء. وإنما أوجبه من حيث كان المجيء الذي أخبرت به مجيئاً مخصوصاً، إذا كان لزيد لم يكن لغيره. والذي أبيناه أن تنفي بلا العاطفة عن شيء، وقد نفيته عنه لفظاً.
ونظير هذا أنا نعقل من قولنا: زيد هو الجائي. أن هذا المجيء لم يكن من غيره، ثم لا يمنع ذلك من أن تجيء فيه بلا العاطفة فتقول: زيد هو الجائي لا عمرو. لأنا لم نعقل عقلناه من انتفاء المجيء عن غيره بنفي أوقعناه على شيء، ولكن بأنه لما كان المجيء المقصود مجيئاً واحداً كان النص على زيد بأنه فاعله، وإثباته له نفياً له عن غيره، ولكن من طريق المعقول لا من طريق أن كان في الكلام نفي، كما كان ثم، فاعرفه. فإن قيل فإنك إذا قلت: ما جاءني إلا زيد. ولم يكن غرضك أن تنفي أن يكون قد جاء معه واحد آخر كان المجيء أيضاً مجيئاً واحداً. قيل: إنه وإن كان واحداً فإنك إنما تثبت أن زيداً الفاعل له بأن نفيت المجيء عن كل من سوى زيد، كما تصنع إذا أردت أن تنفي أن يكون قد جاء معه جاء آخر. وإذا كان كذلك كان ما قلناه من أنك إن جئت بلا العاطفة فقلت: جاءني إلا زيد لا عمرو، كنت قد نفيت الفعل عن شيء قد نفيته عنه مرة صحيحاً ثابتاً كما قلنا، فاعرفه.
واعلم أن حكم غير في جميع ما ذكرنا حكم إلا فإذا قلعت: ما جاءني غير زيد، احتمل أن تريد نفي أن يكون قد جاء معه إنسان آخر، وأن تريد نفي أن لا يكون جاء وجاء مكانه واحد آخر. ولا يصح أن تقول: ما جاءني غير زيد لا عمرو. كما لم يجز ما جاءني إلا زيد لا عمرو.
نكتة تتصل بالكلام الذي تضعه بما وإلا