ومثال التقديم قولك: ما جاءني زيد، وإنما جاءني عمرو. وهذا مما أنت تعلم به مكان الفائدة فيها، وذلك أنك تعلم ضرورة أنك لو لم تدخلها وقلت: ما جاءني زيد، وجاءني عمرو لكان الكلام مع من ظن أنهما جاءاك جميعاً، وأن المعنى الآن مع دخولها أن كلام مع من غلط في عين الجائي، فظن أنه كان زيداً لا عمراً.
وأمر آخر، وهو ليس ببعيد أن يظن الظان أنه ليس في انضمام ما إلى إن فائدة أكثر من أنها تبطل عملها حتى ترى النحويين لا يزيدون في أكثر كلامهم على أنها كافة. ومكانها هاهنا يزيل هذا الظن ويبطله. وذلك أنك ترى أنك لو قلت: ما جاءني زيد، وإن عمراً جاءني، لم يعقل منه أنك أردت أن الجائي عمرو لا زيد، بل يكون دخول إن كالشيء الذي لا يحتاج إليه، ووجدت المعنى ينبو عنه.
ثم اعلم أنك إذا استقريت وجدتها أقوى ما تكون، وأعلق ما ترى بالقلب، إذا كان لا يراد بالكلام بعدها نفس معناه، ولكن التعريض بأمر هو مقتضاه، نحو أنا نعلم أن ليس الغرض من قوله تعالى: " إنما يتذكز أولو الألباب "، أن يعلم السامعون ظاهر معناه، ولكن أن يذم الكفار، وأن ئقال: إنهم من فرط العناد. ومن غلبة الهوى عليهم في حكم من ليس بذي عقل. وإنكم إن طمعتم منهم في أن ينظروا ويتذكروا كنتم كمن طمع في ذلك من غير أولي الألباب. وكذلك قوله: " إنما أنت منذر من يخشاها "، وقوله عز اسمه: " إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب " المعنى على أن من لم تكن له هذه الخشية فهو كأنه ليس له أذن تسمع وقلب يعقل. فالإنذار معه كلا إنذاز. ومثال ذلك من الشعر قوله، من مجزوء الرمل:
أنا لم أرزق محبتها... إنما للعبد ما رزقا
الغرض أن يفهمك من طريق التعريض أنه قد صار ينصح نفسه، ويعلم أنه ينبغي له أن يقطع الطمع من وصلها، وييأس من أن يكون منها إسعاف. ومن ذلك قوله، من البسيط:
وإنما يعذر العشاق من عشقا
يقول: إنه ليس ينبغي للعاشق أن يلوم من يلومه في عشقه، وأنه ينبغي أن لا ينكر ذلك منه فإنه لا يعلم كنه البلوى في العشق. ولو كان ابتلي به لعرف ما هو فيه فعذره. وقوله، من الكامل:
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما... نجح الأمور بقوة الأسباب
فاليوم حاجتنا إليك، وإنما... يدعى الطبيب لساعة الأوصاب
يقول في البيت الأول: إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السبب إليه. ويقول في الثاني: إنا قد وضعنا الشيء في موضعه، وطلبنا الأمر من جهته حين استعنا بك فيما عرض من الحاجة، وعولنا على فضلك. كما أن من عول على الطبيب فيما يعرض له من السقم كان قد أصاب بالتعويل موضعه، وطلب الشيء من معدنه.
ثم إن العجب في أن هذا التعريض الذي ذكرت لك لا يحصل من دون إنما فلو قلت: يتذكر أولو الألباب، لم يدل على ما دل عليه في الآية، وإن كان الكلام لم يتغير في نفسه، وليس إلا أنه ليس فيه إنما. والسبب في ذلك أن هذا التعريض إنما وقع بأن كان من شأن إنما أن تضمن الكلام معنى النفي من بعد الإثبات، والتصريح بامتناع التذكر ممن لا يعقل. وإذا اسقطت من الكلام فقيل: يتذكر أولو الألباب، كان مجرد وصف لأولي الألباب بأنهم يتذكرون. ولم يكن فيه معنى نفي للتذكر عمن ليس منهم. ومحال أن يقع تعرض لشيء ليس له في الكلام ذكر، ولا فيه دليل عليه. فالتعريض بمثل هذا أعني بأن يقول: يتذكر أولو الألباب، بإسقاط إنما يقع إذاً إن وقع بمدح إنسان بالتيقظ، وبأنه فعل ما فعل، وتنبه لما تنبه له لعقله ولحسن تمييزه، كما يقال: كذلك يفعل العاقل، وهكذا يفعل كريم. وهذا موضع فيه دقة وغموض، وهو مما لا يكاد يقع في نفس أحد أنه ينبغي أن يتعرف سببه، ويبحث عن حقيقة الأمر فيه.
ومما يجب لك أن تجعله على ذكر منك من معاني إنما ما عرفتك أولاً من أنها قد تدخل في الشيء على أن يخيل فيه المتكلم أنه معلوم، ويدعي أنه من الصحة بحيث يدفعه دافع كقوله:
إنما مصعب شهاب من الله
ومن اللطيف في ذلك قول قتب بن حصن، من الطويل:
ألا أيها الناهي فزارة بعدما... أجدت لغزو إنما أنت حالم