واعلم أنه لا يجوز أن يكون سبيل قوله:
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه
سبيل قولهم: عتابك السيف. وذلك أن المعنى في بيت أبي تمام على أنك تشبه شيئاً بشيء لجامع بينهما في وصف. وليس المعنى في عتابك السيف على أنك تشبه عتابه بالسيف، ولكن على أن تزعم أنه يجعل السيف بدلاً من العتاب. أفلا ترى أنه يصح أن تقول: مداد قلمه قاتل كسم الأفاعي، ولا يصح أن تقول: عتابك كالسيف. اللهم إلا أن خرج إلى باب آخر، وشيء ليس هو غرضهم بهذا الكلام، فتريد أنه قد عاتب عتاباً خشناً مظلماً. ثم إنك إن قلت: السيف عتابك خرجت به إلى معنى ثالث، وهو أن تزعم أن عتابه. قد بلغ في إيلامه وشدة تأثيره مبلغاً صار له السيف كأنه ليس بسيف.
واعلم أنه إن نظر ناظر في شأن المعاني والألفاظ إلى حال السامع، فإذا رأى المعاني تقع في نفسه من بعد وقوع الألفاظ في سمعه، ظن لذلك أن المعاني تبع للألفاظ في ترتيبها. فإن هذا الذي بيناه يريه فساد هذا الظن. وذلك أنه لو كانت المعاني تكون تبعاً للألفاظ في ترتيبها، لكان محالاً أن تتغير المعاني والألفاظ بحالها لم تزل عن ترتيبها، فلما رأينا المعاني قد جاز فيها التغير من غير أن تتغير الألفاظ، وتزول عن أماكنها علمنا أن الألفاظ هي التابعة والمعاني هي المتبوعة.
واعلم أنه ليس من كلام يعمد واضعه فيه إلى معرفتين، فيجعلهما مبتدأ وخبراً، ثم يقدم الذي هو الخبر إلا أشكل الأمر عليك فيه، فلم تعلم أن المقدم، خبر حتى ترجع إلى المعنى وتحسن التدبر. أنشد الشيخ أبو علي في التذكرة، من الخفيف:
نم وإن لم أنم كراي كراكا
ثم قال: ينبغي أن يكون كراي خبراً مقدماً، ويكون الأصل كراك كراي أي نم وإن لم أنم، فنومك نومي. كما تقول: قم وإن جلست فقيامك قيامي. هذا هو عرف الاستعمال في نحوه. ثم قال: وإذا كان كذلك فقد قدم الخبر، وهو معرفة وهو ينوي به التأخير من حيث كان خبراً. قال: فهو كبيت الحماسة، من الطوبل:
بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا | بنوهن أبناء الرجال الأباعد |
واعلم أن الفائدة تعظم في هذا الضرب من الكلام إذا أنت أحسنت النظر فيما ذكرت لك من أنك تستطيع أن تنقل الكلام في معناه عن صورة إلى صورة من غير أن تغير من لفظه شيئاً، أو تحول كلمة عن مكانها إلى مكان آخر، وهو الذي وسع مجال التأويل والتفسير، حتى صاروا يتأولون في الكلام الواحد تأويلين أو أكثر، ويفسرون البيت الواحد عدة تفاسير وهو على ذاك، الطريق المزلة الذي ورط كثيراً من الناس في الهلكة. وهو مما يعلم به العاقل شدة الحاجة إلى هذا العلم، وينكشف معه عوار الجاهل به، ويفتضح عنده المظهر الغنى عنه. ذاك لأنه قد يدفع إلى الشيء لا يصح إلا بتقدير غير ما يريه الظاهر. ثم لا يكون له سبيل إلى معرفة ذلك التقدير، إذا كان جاهلاً بهذا العلم، فيتسكع عند ذلك في العمى، ويقع في الضلال. مثال ذلك أن من نظر إلى قوله تعالى: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ". ثم لم يعلم أن ليس المعنى في ادعوا الدعاء، ولكن الذكر بالاسم كقولك: هو يدعى زيداً، ويدعى الأمير. وأن في الكلام محذوفاً، وأن التقدير: قل أدعوه الله، أو ادعوه الرحمن، أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى، كان بعرض أن يقع في الشرك من حيث إنه إن جرى في خاطره أن الكلام على ظاهره خرج ذلك به والعياذ بالله تعالى إلى إثبات مدعوين، تعالى عن أن يكون له شريك. وذلك من حيث كان محالاً أن تعمد إلى اسمين، كلاهما اسم شيء واحد، فتعطف أحدهما على الآخر، فتقول مثلاً: ادع لي زيداً الأمير والأمير هو زيد. وكذلك محال أن تقول: أيا تدعو وليس هناك إلا مدعو واحد، لأن من شأن أي أن تكون أبداً واحداً من اثنين أو جماعة، ومن لم يكن له بد من الاضافة إما لفظاً وإما تقديراً.
وهناك باب واسع من المشكل فيه قراءة من قرأ " وقالت اليهود عزير ابن الله " بغير تنوين، وذلك أنهم قد حملوها على وجهين: