بهذا الشأن، أو للخذلان، أو لشهوة الإغراب في القول. ومن هذا الذي يرضى من نفسه أن يزعم أن البرهان الذي بان لهم، والأمر الذي بهرهم، والهيئة التي ملأت صدورهم، والروعة التي دخلت عليهم فأزعجتهم، حتى قالوا: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر. إنما كان بشيء راعهم من مواقع حركاته، ومن ترتيب بينها وبين سكناته، أو لفواصل في أواخر آياته من أين تليق هذه الصفة. وهذا التشبيه بذلك، أم ترى أن ابن مسعود حين قال في صفة القرآن: لا يتفه ولا يتشان وقال: إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهم، أي اتتبع محاسنهن قال ذلك من أجل أوزان الكلمات، ومن أجل الفواصل في أواخر الآيات؟ أم ترى أنهم لذلك قالوا: لا تفنى عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد؟ أم ترى الجاحظ حين قال في كتاب النبوة: " ولو أن رجلاً قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة لتبين له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها، أنه عاجز عن مثلها. ولوتحدي بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها لغا ولغط ".
انظر إلى مثل ذلك، فليس كلامه هذا مما ذهبوا إليه في شيء.
وينبغي أن تكون موازنتهم بين بعض الآي، وبين ما قاله الناس في معناها كموازنتهم بين: " ولكم في القصاص حياة " وبين: قتل البعض إحياء للجميع خطأ منهم لأنا لا نعلم لحديث التحريك والتسكين وحديث الفاصلة مذهباً في هذه الموازنة. ولا نعلمهم أرادوا غير ما يريده الناس إذا وازنوا بين كلام وكلام في الفصاحة والبلاغة ودقة النظم وزيادة الفائدة. ولولا أن الشيطان قد استحوذ على كثير من الناس في هذا، وأنهم بترك النظر وإهمال التدبر ضعف النية وقصر الهمة، وقد طرقوا له، حتى جعل يلقي في نفوسهم كل محال وكل باطل، وجعلوا هم يعطون الذي يلقيه حظاً من قبولهم، ويبوؤنه مكاناً من قلوبهم، لما بلغ من قدر هذه الأقوال الفاسدة أن تدخل في تصنيف، ويعاد ويبدأ في تبيين لوجه الفساد فيها وتعريف.
ثم إن هذه الشناعات التي تقدم ذكرها تلزم أصحاب الصرفة أيضاً. وذاك أنه لو لم يكن عجزهم عن معارضة القرآن، وعن أن يأتوا بمثله لأنه معجز في نفسه، لكن لأن أدخل عليهم العجز عنه، وصرفت هممهم وخواطرهم عن تأليف كلام مثله. وكان حالهم على جملة حال من أعدم العلم بشيء قد كان يعلمه، وحيل بينه وبين أمر قد كان يتسع له، لكان ينبغي أن لا يتعاظمهم، ولا يكون منهم ما يدل على إكبارهم أمره، وتعجبهم منه، وعلى أنه قد بهرهم، وعظم كل العظم عندهم، ولكان التعجب للذي دخل من العجز عليهم، ولما رأوه من تغير حالهم، ومن أن حيل بينهم وبين شيء قد كان عليهم سهلاً، وأن سد دونه باب كان لهم مفتوحاً. أرأيت لو أن نبياً قال لقومه: إن آيتي أن أضع يدي على رأسي هذه الساعة، وتمنعون كلكم من أن تستطيعوا وضع أيديكم على رؤوسكم، وكان الأمر كما قال كم يكون تعجب القوم، من وضعه يده على رأسه، أم من عجزهم أن يضعوا أيديهيهم على رؤوسهم؟ ونعود إلى النسق فنقول: فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن في شيء مما عددناه لم يبق إلا أن يكون في الاستعارة. ولا يمكن أن تجعل الاستعارة الأصل في الإعجاز، وأن يقصر عليها، لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الإعجاز في آي معدودة، في مواضع من السور الطوال مخصوصة. وإذا امتنع ذلك فيها لم يبق إلا أن يكون في النظم والتأليف، لأنه ليس من بعد ما أبطلنا أن يكون فيه إلا النظم. وإذا ثبت أنه في النظم والتأليف، وكنا قد علمنا أن ليس النظم شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، وأنا إن بقينا الدهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكاً ينظمها، وجامعاً يجمع شملها ويؤلفها، ويجعل بعضها بسبب من بعض غير توخي معاني النحو وأحكامه فيها، طلبنا ما كل محال دونه.
فقد بان وظهر أن المتعاطي القول في النظم، والزاعم أنه يحاول بيان المزية فيه، وهو لا يعرض فيما يعيده ويبديه للقوانين والأصول التي قدمنا ذكرها، ولا يسلك إليك المسالك التي نهجناها، في عمياء من أمره، وفي غرور من نفسه، وفي خداع من الأماني والأضاليل ذاك لأنه إذا كان لا يكون النظم شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم كان من أعجب العجب حين يزعم زاعم أنه يطلب المزية في النظم، ثم لا يطلبها في معاني النحو وأحكامه التي النظم عبارة عن توخيها فيما بين الكلم.


الصفحة التالية
Icon