واعلم أنك كلما نظرت وجدت سبب الفساد واحداً، وهو ظنهم الذي ظنوه في اللفظ وجعلهم الأوصاف التي تجري عليه كلها أوصافاً له في نفسه، ومن حيث هو لفظ. وتركهم أن يميزوا بين ما كان وصفاً له في نفسه، وبين ما كانوا قد أكسبوه إياه من أجل أمر عرض في معناه. ولما كان هذا دأبهم، ثم رأوا الناس، وأظهر شيء عندهم في معنى الفصاحة تقويم الإعراب، والتحفظ من اللحن، لم يشكوا أنه ينبغي أن يعتد به في جملة المزايا التي يفاضل بها بين كلام وكلام في الفصاحة. وذهب عنهم أن ليس هو من الفصاحة التي يعنينا أمرها في شيء. وإن كلامنا في فصاحة تجب للفظ لا من أجل شيء يدخل في النطق. ولكن من أجل لطائف تدرك بالفهم. وإنا نعتبر في شأننا هذا فضيلة تجب لأحد الكلامين على الآخر من بعد أن يكونا قد برئا من اللحن، وسلما في ألفاظهما من الخطأ. ومن العجب أنا إذا نظرنا في الإعراب وجدنا التفاضل فيه محالاً لأنه لا يتصور أن يكون للرفع والنصب في كلام مزية عليهما في كلام آخر، وإنما الذي يتصور أن يكون هاهنا كلامان قد وقع في إعرابهما خلل، ثم كان أحدهما أكثر صواباً من الآخر. وكلامان قد استمر أحدهما على الصواب، ولم يستمر الآخر. ولا يكون هذا تفاضلاً في الإعراب، ولكن تركاً له في شيء، واستعمالاً له في آخر، فاعرف ذلك.
وجملة الأمر أنك لا ترى ظناً هو أنأى بصاحبه عن أن يصح له كلام، أو يستمر له نظام، أو تثبت له قدم، أو ينطق منه إلا بالمحال فم، من ظنهم هذا الذي حام بهم حول اللفظ، وجعلهم لا يعدونه، ولا يرون للمزية مكاناً دونه.
واعلم أنه قد يجري في العبارة منا شيء هو يعيد الشبهة جذعة عليهم، وهو أنه يقع في كلامنا أن الفصاحة تكون في المعنى دون اللفظ، ونراها لا تدخل في صفة المعنى البتة، نرى الناس قاطبة يقولون: هذا لفظ فصيح وهذه ألفاط فصيحة. ولا نرى عاقلاً يقول: هذا معنى فصيح، وهذه معان فصاح. ولو كانت الفصاحة تكون في المعنى لكان ينبغي أن يقال ذاك. كما أنه لما كان الحسن يكون فيه قيل: هذا معنى حسن وهذه معان حسنة. وهذا شيء يأخذ من الغر مأخذاً.
والجواب عنه أن يقال: إن غرضنا من قولنا: إن الفصاحة تكون في المعنى، أن المزية التي من أجلها استحق اللفظ الوصف بأنه فصيح، عائدة في الحقيقة إلى معناه. ولو قيل إنها تكون فيه دون معناه لكان ينبغي إذا قلنا في اللفظة إنها فصيحة أن تكون تلك الفصاحة واجبة بكل حال. ومعلوم أن الأمر بخلاف ذلك، فإنا نرى اللفظة تكون في غاية الفصاحة في موضع، ونراها بعينها فيما لا يحصى من المواضع، وليس فيها من الفصاحة قليل ولا كثير. ما كان كذلك لأن المزية التي من أجلها نصف اللفظ في شأننا هذا بأنه فصيح، مزية تحدث من بعد أن لا تكون، وتظهر في الكلم من بعد أن يدخلها النظم. وهذا شيء إن أنت طلبته فيها وقد جئت بها أفراداً لم ترم فيها نظماً، ولم تحدث لها تأليفاً، طلبت محالاً.
وإذا كان كذلك وجب أن يعلم قطعاً وضرورة أن تلك المزية في المعنى دون اللفظ.
وعبارة أخرى في هذا بعينه وهي أن يقال: قد علمنا علماً لا تعترض معه شبهة، أن الفصاحة فيما نحن فيه عبارة عن مزية هي بالمتكلم دون واضع اللغة. وإذا كان كذلك فينبغي لنا أن ننظر إلى المتكلم هل يستطيع أن يزيد من عند نفسه في اللفظ شيئاً ليس هو له في اللغة، حتى يجعل ذلك من صنيعه مزية يعبر عنها بالفصاحة. وإذا نظرنا وجدناه لا يستطيع أن يصنع باللفظ شيئاً أصلاً، ولا أن يحدث فيه وصفاً. كيف وهو إن فعل ذلك أفسد على نفسه، وأبطل أن يكون متكلماً، لأنه لا يكون متكلماً حتى يستعمل أوضاع لغة على ما وضعت هي عليه. وإذا ثبت من حاله أنه لا يستطيع أن يصنع بالألفاظ شيئاً ليس هو لها في اللغة. وكنا قد اجتمعنا على أن الفصاحة فيما نحن فيه عبارة عن مزية هي بالمتكلم البتة، وجب أن نعلم قطعاً وضرورة أنهم وإن كانوا قد جعلوا الفصاحة في ظاهر الاستعمال من صفة اللفظ، فإنهم يجعلوها وصفاً له في نفسه، ومن حيث هو صدى صوت ونطق لسان، ولكنهم جعلوها عبارة عن مزية أفادها المتكلم، ولما لم تزد إفادته في اللفظ شيئاً لم يبق إلا أن تكون عبارة عن مزية في المعنى.