شكرتك إن الشكر حبل من التقى... وما كل من أوليته صالحاً يقضي
وأنبهت لي ذكري وما كان خاملاً... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
فعمد أبو تمام إلى هذا البيت الأخير فقال، من الطويل:
لقد زدت أوضاحي امتداداً ولم أكن... بهيماً ولا أرضى من الأرض مجهلا
ولكن أياد صادفتني جسامها... أغر فأوفت بي أغر محجلا
وفي كتاب الشعر والشعراء للمرزباني فصل في هذا المعنى حسن، قال: ومن الأمثال القديمة قولهم: " حراً أخاف على جاني كمأة لا قراً " يضرب مثلاً للذي يخاف من شيء، فيسلم منه ويصيبه غيره مما لم يخفه، فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال، من الكامل:
وحذرت من أمر فمر بجانبي... لم ينكني ولقيت مالم أحذر
وقال لبيد، من المنسرح:
أخشى على أربد الحتوف ولا... أرهب نوء السماك والأسد
قال: وأخذه البحتري فأحسن وطغى اقتداراً على العبارة، واتساعاً في المعنى، فقال، من الكامل:
لو أنني أوفي التجارب حقها... فيما أرت لرجوت ما أخشاه
وشبيه بهذا الفصل فصل آخر من هذا الكتاب أيضاً.
أنشد لإبراهيم بن المهدي، من السريع:
يامن لقلب صيغ من صخرة... في جسد من لؤلؤ رطب
جرحت خديه بلحظي فما... برحت حتى اقتص من قلبي
ثم قال: قال علي بن هارون: أخذه أحمد بن فنن معنى ولفظاً فقال، من الكامل:
أدميت باللحظات وجنته... فاقتص ناظره من القلب
قال: ولكنه بنقاء عبارته وحسن مأخذه قد صار أولى به.
ففي هذا دليل لمن عقل أنهم لا يعنون بحسن العبارة مجرد اللفظ، ولكن صورة وصفة وخصوصية تحدث في المعنى، وشيئاً طريق معرفته على الجملة العقل دون السمع، فإنه على كل حال لم يقل في البحتري إنه أحسن فطغى اقتداراً على العبارة من أجل حروف أنني أوفي التجارب حقها.
وكذلك لم يصف ابن أبي فنن بنقاء العبارة من أجل حروف:
أدميت باللحظات وجنته
واعلم أنك إذا سبرت أحوال هؤلاء الذين زعموا أنه إذا كان المعبر عنه واحداً والعبارة اثنتين، ثم كانت إحدى العبارتين أفصح من الأخرى وأحسن، فإنه ينبغي أن يكون السبب كونها أفصح وأحسن اللفظ نفسه، وجدتهم قد قالوا ذلك من حيث قاسوا الكلامين على الكلمتين. فلما رأوا أنه إذا قيل في الكلمتين إن معناهما واحد لم يكن بينهما تفاوت، ولم يكن المعنى في إحداهما حال لا يكون له في الأخرى، ظنوا أن سبيل الكلامين هذا السبيل ولقد غلطوا فأفحشوا لأنه لا يتصور أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين مثل صورته في الآخر البتة، اللهم إلا أن يعمد عامد إلى بيت فيضع مكان كل لفظة منه لفظة معناها، ولا يعرض لنظمه وتأليفه، كمثل أن يقول في بيت الحطيئة، من البسيط:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ذر المفاخر لا تذهب لمطلبها... واجلس فإنك أنت الآكل اللابس
وما كان هذا سبيله كان بمعزل من أن يكون به اعتداد، وأن يدخل في قبيل ما يفاضل فيه بين عبارتين، بل لا يصح أن يجعل ذلك عبارة ثانية، ولا أن يجعل الذي يتعاطاه بمحل من يوصف بأنه أخذ معنى. ذلك لأنه لا يكون بذلك صانعاً شيئاً يستحق أن يدعى من أجله واضع كلام ومستأنف عبارة، وقائل شعر. ذاك لأن بيت الحطيئة لم يكن كلاماً وشعراً من أجل معاني الألفاظ المفردة التي تراها فيه مجردة معراة من معاني النظم والتأليف، بل منها متوخى فيها ما ترى من كون المكارم مفعولاً لدع، وكون قوله: لا ترحل لبغيتها جملة أكدت الجملة قبلها، وكون اقعد معطوفاً بالواو على مجموع ما مضى، وكون جملة أنت الطاعم الكاسي معطوفة بالفاء على اقعد. فالذي يجيء فلا يغير شيئاً من هذا الذي به ن كلاماً وشعراً، لا يكون قد أتى بكلام ثان وعبارة ثانية، بل لا يكون قد قال من عند نفسه شيئاً البتة.