وإذا نظرنا في ذلك علمنا أن لا محصول لها غير أن تعمد إلى اسم فتجعله فاعلاً لفعل أو مفعولاً أو تعمد إلى اسمين فتجعل أحدهما خبراً عن الآخر، أو تتبع الاسم اسماً على أن يكون الثاني صفة للأول، أو تأكيداً له، أو بدلاً منه، أو تجيء باسم بعد تمام كلامك على أن يكون الثاني صفة، أو حالاً، أو تمييزاً، أو تتوخى في كلام هو لإثبات معنى أن يصير نفياً، أو استفهاماً، أو تمنياً، فتدخل عليه الحروف الموضوعة لذلك، أو تريد في فعلين أن تجعل أحدهما شرطاً في الآخر فتجيء بهما بعد الحرف الموضوع لهذا معنى، أو بعد اسم من الأسماء التي ضمنت معنى ذلك الحرف وعلى هذا القياس. وإذا كان لا يكون في الكلم نظم ولا ترتيب إلا بأن يصنع بها هذا الصنيع ونحوه، وكان ذلك كله مما لا يرجع منه إلى اللفظ شيء، ومما لا يتصور أن يكون فيه ومن صفته بان بذلك أن الأمر على ما قلناه من أن اللفظ تبع للمعنى في النظم، وأن الكلم تترتب في النطق بسبب ترتب معانيها في النفس، وأنها لو خلت من معانيها حتى تتجرد أصواتاً وأصداء حروف لما وقع في ضمير، ولا هجس في خاطر أن يجب النطق فيها ترتيب ونظم، وأن يجعل لها أمكنة ومنازل، وأن يجب النطق بهذه قبل النطق بتلك. والله الموفق للصواب.
في الفصاحة
وهذه شبهة أخرى ضعيفة عسى أن يتعلق بها متعلق ممن يقدم على القول من غير روية. وهي أن يدعي أن لا معنى للفصاحة سوى التلاؤم اللفظي وتعديل مزاج الحروف حتى لا يتلاقى في النطق حروف تثقل على اللسان كالذي أنشده الجاحظ من قول ساعر، من السريع:
وقبر حرب بمكان قفر... وليس قرب قبر حرب قبر
وقول ابن يسير، من الخفيف:
لا أذيل الآمال بعدك إني... بعدها بالأمال جد بخيل
كم لها موقفاً بباب صديق... رجعت من نداه بالتعطيل
لم يضرها، والحمد لله، شيء... وانثنت نحو عزف نفس ذهول
قال الجاحظ: فتفقد النصف الأخير من هذا البيت فإنك ستجد بعض ألفاظه يتبرأ بعض. ويزعم أن الكلام في ذلك على طبقات، فمنه المتناهي في الثقل، المفرط فيه كالذي مضى. ومنه ما هو أخف منه كقول أبي تمام، من الطويل:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى... جميعاً ومهما لمته لمته وحدي
ومنه ما يكون فيه بعض الكلفة على اللسان، إلا أنه لا يبلغ أن يعاب به صاحبه ويشهر أمره في ذلك ويحفظ عليه. ويزعم أن الكلام إذا سلم من ذلك وصفا من شوبه كان الفصيح المشاد به والمشار إليه. وأن الصفاء أيضاً يكون على مراتب يعلو بعضها بعضاً، وأن له غاية إذا انتهى إليها كان الإعجاز.
والذي يبطل هذه الشبهة إن ذهب إليها ذاهب أنا إن قصرنا صفة الفصاحة على كون اللفظ كذلك، وجعلناه المراد بها لزمنا أن نخرج الفصاحة من حيز البلاغة، ومن أن تكون نظيرة لها. وإذا فعلنا ذلك لم نخل في أحد أمرين: إما أن نجعله العمدة في المفاضلة بين العبارتين ولا نعرج على غيره، وإما أن نجعله أحد ما نفاضل به، ووجهاً من الوجوه التي تقتضي تقديم كلام على كلام. فإن أخذنا بالأول لزمنا أن نقصر الفضيلة عليه، حتى لا يكون الإعجاز إلا به. وفي ذلك ما لا يخفى من الشناعة؟ لأنه يؤدي إلى أن لا يكون للمعاني التي ذكروها في حدود البلاغة من وضوح الدلالة، وصواب الإشارة، وتصحيح الأقسام، وحسن الترتيب والنظام، والإبداع في طريقة التشبيه والتمثيل، والإجمال ثم التفصيل، ووضع الفصل والوصل موضعهما وتوفية الحذف، والتأكيد، والتقديم والتأخير شروطهما مدخل فيما له كان القرآن معجزاً حتى ندعي أنه لم يكن معجزاً من حيث هو بليغ، ولا من حيث هو قول فصل، وكلام شريف النظم بديع التأليف؟ وذلك أنه لا تعلق لشيء من هذه المعاني بتلاؤم الحروف.