اعلم أن من شأن هذه الأجناس أن تجري فيها الفضيلة، وأن تتفاوت التفاوت الشديد. أفلا ترى أنك تجد في الاستعارة العامي المبتذل، كقولنا: رأيت أسداً، ووردت بحراً، ولقيت بحراً؟ والخاصي النادر الذي لا تجده إلا في كلام الفحول، ولا يقوى عليه إلا أفراد الرجال، كقوله، من الطويل:
وسالت بأعناق المطي الأباطح
أراد أنها سارت سيراً حثيثاً في غاية السرعة، وكانت سرعة في لين وسلاسة، كأنه كانت سيولاً وقعت في تلك الأباطح فجرت بها. ومثل هذه الاستعارة في الحسن واللطف وغلو الطبقة في هذه اللفظة بعينها قول الآخر، من البسيط، :
سالت عليه شعاب الحي حين دعا... أنصاره بوجوه كالدنانير
أراد أنه مطاع في الحي، وأنهم يسرعون إلى نصرته، وأنه لا يدعوهم لحرب، أو نازل خطب إلا أتوه وكثروا عليه، وازدحموا حواليه، حتى تجدهم كالسيول تجيء من هاهنا وهاهنا، وتنصب من هذا المسيل وذلك، حتى يغص بها الوادي ويطفح منها.
ومن بديع الاستعارة ونادرها إلا أن جهة الغرابة فيه غير جهتها في هذا، قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرساً له، وأنه مؤدب، وأنه إذا نزل عنه، وألقى عنانه في قربوس سرجه وقف مكانه إلى أن يعود إليه، من الكامل:
عودته فيما أزور حبائبي... إهماله وكذاك كل مخاطر
وإذا احتبى قربوسه بعنانه... علك الشكيم إلى انصراف الزائر
فالغرابة هاهنا في الشبه نفسه، وفي أن استدراك أن هيئة العنان في موقعه من قربوس سرج كالهيئة في موضع الثوب من ركبة المحتبي. وليست الغرابة في قوله:
وسالت بأعناق المطي الأباطح
على هذه الجملة، وذلك أنه لم يغرب لأن جعل المطي في سرعة سيرها وسهولته الماء يجري في الأبطح، فإن هذا شبه معروف ظاهر. ولكن الدقة واللطف في خصوصية أفادها بأن جعل سال فعلاً للأباطح، ثم عداه بالباء، ثم بأن أدخل الأعناق في البيت فقال: بأعناق المطي، ولم يقل بالمطي، ولو قال: سالت المطي في الأباطح لم يكن شيئاً. وكذلك الغرابة في البيت الآخر ليس في مطلق معنى سال، ولكن في تعديته، على والباء وبأن جعله فعلاً لقوله: شعاب الحي. ولولا هذه الأمور كلها لم يكن هذا حسن. وهذا موضع يحق الكلام فيه.
وهذه أشياء من هذا الفن، من البسيط:
اليوم يومان مذ غيبت عن بصري... نفسي فداؤك ما ذنبي فأعتذر
أمسي وأصبح لا ألقاك، واحزنا... لقد تأنق في مكروهي القدر
سوار بن المضرب وهو لطيف جداً، من الوافر:
بعرض تنوفة للريح فيها... نسيم لا يروع الترب وان
بعض الأعراب، من الكامل:
ولرب خصم جاهدين ذوي شذاً... تقذي عيونهم بهتر هاتر
لد ظأرتهم على ما ساءهم... وخسأت باطلهم بحق ظاهر
المقصود: لفظة خسأت.
ابن المعتز، من الرجز:
حتى إذا ما عرف الصيد الضار... وأذن الصبح لنا في الإبصار
المعنى: حتى إذا تهيأ لنا أن نبصر شيئاً، لما كان تعذر الإبصار منعاً من الليل، جعل إمكانه عند ظهور الصبح إذناً من الصبح. وله من مجزوء الوافر:
بخيل قد بليت به... يكد الوعد بالحجج
وله، من الطويل:
يناجيني الإخلاف من تحت مطله... فتختصم الآمال واليأس في صدري
ومما هو في غاية الحسن، وهو من الفن الأول قول الشاعر، أنشده الجاحظ:
لقد كنت في قوم عليك أشحة... بنفسك، إلا أن ماطاح طائح
يودون لو خاطوا عليك جلودهم... ولا يدفع الموت النفوس الشحائح؟
قال: وإليه ذهب بشار في قوله، من الرجز:
وصاحب كالدمل الممد... حملته في رقعة من جلدي
ومن سر هذا الباب أنك ترى اللفظة المستعارة قد استعيرت في عدة مواضع، ثم ترى لها في بعض ذلك ملاحة لا تجدها في الباقي. مثال ذلك أنك تنظر إلى لفظة الجسر في قول أبي تمام، من البسيط:
لا يطمع المرء أن يجتاب لجته... بالقول ما لم يكن جسراً له العمل
وقوله، من البسيط:
بصرت بالراحة العظمى فلم ترها... تنال إلا على جسر من التعب
فترى لها في الثاني حسناً لا تراه في الأول. ثم تنظر إليها في قول ربيعة الرقي، من البسيط:


الصفحة التالية
Icon