فترى أن هذه الطلاوة، وهذا الظرف إنما هو لأن جعل النظر يجمح، وليس هو لذلك، بل لأن قال في أول البيت: وإني، حتى دخل اللام في قوله: التجمح. ثم قوله مني. ثم لأن قال: نظرة ولم يقل: النظر مثلاً. ثم لمكان ثم في قوله: ثم أطرق وللطيفة أخرى نصرت هذه اللطائف، وهي اعتراضه بين اسم إن وخبرها بقوله: على إشفاق عيني من العدا.
وإن أردت أعجب من ذلك فيما ذكرت لك فانظر إلى قوله: وقد تقدم إنشاده قبل:
سالت عليه شعاب الحي حين دعا | أنصاره بوجوه كالدنانير |
وهذا هو الذي أردت حين قلت لك: إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه، إلا من بعد العلم، بالنظم والوقوف على حقيقته.
ومن دقيق ذلك وخفيه أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى: " واشتعل الرأس شيباً " لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، ولم ينسبوا الشرف إلا إليها، ولم يروا للمزية موجباً سواها. هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم، وليس الأمر على ذلك. ولا هذا الشرف العظيم، ولا هذه المزية الجليلة، وهذه الروعة التي تدخل على النفوس عند هذا الكلام لمجرد الاستعارة. ولكن لأن سلك بالكلام طريق ما يسنذ الفعل فيه إلى الشيء، وهو لما هو سببه فيرفع به ما يسند إليه، ويؤتى بالذي الفعل له في المعنى، منصوباً بعده مبيناً أن ذلك الإسناد، وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل هذا الثاني، ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة، كقولهم: طاب زيد نفساً، وقر عمرو عيناً، وتصبب عرقاً، وكرم أصلاً، وحسن وجهاً. وأشباه ذلك مما تجد الفعل فيه منقولاً من الشيء إلى ما ذلك الشيء من سببه. وذلك أنا نعلم أن اشتعل للشيب في المعنى، وإن كان هو للرأس في اللفظ. كما أن طاب للنفس، وقر للعين، وتصبئب للعرق، وإن أسند إلى ما أسند إليه، يبين أن الشرف كان لأن سلك فيه هذا المسلك، وتوخي به هذا المذهب، أن تدع هذا الطريق فيه، وتأخذ اللفظ فتسنده إلى الشيب صريحاً فتقول: اشتعل شيب الرأس والشيب في الرأس. ثم تنظر: هل تجد ذلك الحسن وتلك الفخامة؟ وهل ترى الروعة التي كنت تراها؟ فإن قلت: فما السبب في أن كان اشتعل إذا استعير للشيب على هذا الوجه كان له الفضل؟ ولم بان بالمزية من الوجه الآخر هذه البينونة؟ فإن السبب أنه يفيد مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصل المعنى الشمول، وأنه قد شاع فيه، وأخذه من نواحيه، وأنه قد استغرقه، وعم جملته، حتى لم يبق من السواد شيء، أو لم يبق منه إلا ما لا يعتد به. وهذا ما لا يكون إذا قيل: اشتعل شيب الرأس، أو الشيب في الرأس. بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة. ووزان هذا أنك تقول: اشتعل البيت ناراً. فيكون المعنى أن النار قد وقعت فيه وقوع الشمول، وأنها قد استولت عليه، وأخذت في طرفيه ووسطه. وتقول: اشتعلت النار في البيت. فلا يفيد ذلك، بل لا يقتضي أكثر من وقوعها فيه وإصابتها جانباً منه. فأما الشمول، وأن تكون قد استولت على البيت، وابتزته فلا يعقل من اللفظ البتة.