وكذلك الحكم في قوله تعالى: " فقالوا أبشراً منا واحداً نتبعه ". وذلك لأنهم بنوا كفرهم على أن من كان مثلهم بشراً لم يكن بمثابة أن يتبع ويطاع، وينتهى إلى ما يأمر ويصدق أنه مبعوث من الله تعالى، وأنهم مأمورون بطاعته، كما جاء في الأخرى: " إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا "، وكقوله عز وجل: " ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة " فهذا هو القول في الضرب الأول، وهو يكون يفعل بعد الهمزة لفعل لم يكن.
وأما الضرب الثاني وهو أن يكون يفعل لفعل موجود فإن تقديم الاسم يقتضي شبهاً بما اقتضاه في الماضي من الأخذ بأن يقر أنه الفاعل أو الإنكار أن يكون الفاعل. فمثال الأول قولك للرجل يبغي ويظلم: أ أنت تجيء إلى الضعيف فتغصب ماله؟ أ أنت تزعم أن الأمر كيت وكيت؟ وعلى ذلك قوله تعالى: " أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " ومثال والثاني " أهم يقسمون رحمة ربك ".
التقديم والتأخير في النفي
وإذ قد عرفت هذه المسائل في الاستفهام، فهذه مسائل في النفي. إذا قلت: ما فعلت. كنت نفيت عنك فعلاً لم يثبت أنه مفعول. وإذا قلت: ما أنا فعلت. كنت نفيت عنك فعلاً ثبت أنه مفعول. تفسير ذلك أنك إذا قلت: ما قلت هذا. كنت نفيت أن تكون قد ذاك، وكنت نوظرت في شيء ثبت أنه مقول. وكذلك إذا قلت: ما ضربت زيداً. كنت نفيت عنك ضربه، ولم يجب أن يكون قد ضرب، بل يجوز أن يكون قد ضربه غيرك، وأن كون قد ضرب أصلاً. وإذا قلت: ما أنا ضربت زيداً: لم تقله إلا وزيد مضروب، وكان القصد أن تنفي أن تكون أنت الضارب.
ومن أجل ذلك صلح في الوجه الأول أن يكون المنفي عاماً كقولك: ما قلت شعراً قط وما أكلت اليوم شيئاً، وما رأيت أحداً من الناس. ولم يصلح في الوجه الثاني فكان خلفاً أن تقول: ما أنا قلت شعراً قط، وما أنا أكلت اليوم شيئاً، وما أنا رأيت أحداً من الناس وذلك لأنه يقتضي المحال، وهو أن يكون هاهنا إنسان قد قال كل شعر في الدنيا، وأكل كل شيء يؤكل، ورأى كل أحد من الناس. فنفيت أن تكونه.
ومما هو مثال بين في أن تقديم الاسم يقتضي وجود الفعل قوله، من المتقارب:
وما أنا أسقمت جسمي به | ولا أنا أضرمت في القلب نارا |
ومثله في الوضوح قوله، من الطويل:
وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله
الشعر مقول على القطع والنفي، لأن يكون هو وحده القائل له.
وهاهنا أمران يرتفع معهما الشك في وجوب هذا الفرق، ويصير العلم به كالضرورة.
أحدهما أنه يصح لك أن تقول: ما قلت هذا ولا قاله أحد من الناس. وما ضربت زيداً، ولا ضربه أحد سواي. ولا يصح ذلك في الوجه الأخر. فلو قلت: ما أنا قلت هذا، ولا قاله أحد من الناس. وما أنا ضربت زيداً ولا ضربه أحد سواي، كان خلفاً من القول، وكان في التناقض بمنزلة أن تقول: لست الضارب زيداً أمس. فتثبت أنه قد ضرب، ثم تقول من بعده: ما ضربه أحد من الناس، ولست القائل ذلك. فتثبت أنه قد قيل، ثم تجيء فتقول: وما قاله أحد من الناس.
والثاني من الأمرين أنك تقول: ما ضربت إلا زيداً، فيكون كلاماً مستقيماً، ولو قلت: ما أنا ضربت إلا زيداً، كان لغواً من القول، وذلك لأن نقض النفي بإلا يقتضي أن تكون ضربت زيداً. وتقديمك ضميرك وإيلاؤه حرف النفي يقتضي نفي أن تكون ضربته، فهما يتدافعان، فاعرفه.
ويجيء لك هذا الفرق على وجهه. في تقديم المفعول وتأخيره. فإذا قلت: ما ضربت زيداً، فقدمت الفعل كان المعنى أنك قد نفيت أن يكون قد وقع ضرب منك على زيد، ولم تعرض في أمر غيره لنفي ولا إثبات، وتركته مبهماً محتملاً. وإذا قلت: ما زيداً ضربت فقدمت المفعول كان المعنى على أن ضرباً وقع منك على إنسان، وظن أن ذلك الإنسان زيد، فنفيت أن يكون إياه. فلك أن تقول في الوجه الأول: ما ضربت زيداً ولا أحداً من، وليس لك في الوجه الثاني، فلو قلت: ما زيداً ضربت ولا أحداً من الناس، كان على مامضى في الفاعل.