فإن قلت: فمن أين وجب أن يكون تقديم ذكر المحدث عنه بالفعل آكد لإثبات ذلك الفعل له، وأن يكون قوله: هما يلبسان المجد أبلغ فى جعلهما يلبسانه من أن يقول: يلبسان المجد. فإن ذلك من أجل أنه لا يؤتى بالاسم معرى من العوامل إلا لحديث قد نوي إسناده إليه. وإذا كان كذلك فإذا قلت: عبدالله فقد أشعرت قلبه بذلك أنك قد أردت الحديث عنه. فإذا جئت بالحديث فقلت مثلاً: قام، أو قلت: خرج، أو قلت: قدم، فقد علم ما جئت به، وقد وطأت له، وقدمت الإعلام فيه، فدخل على القلب دخول المأنوس به، وقبله قبول المتهيء له المطمئن إليه، وذلك لا محالة أشد لثبوته، وأنفى للشبهة وأمنع للشك، وأدخل في التحقيق.
وجملة الأمر أنه ليس إعلامك الشيء بغتة مثل إعلامك له بعد التنبيه عليه والتقدمة له، لأن ذلك يجري مجرى تكرير الإعلام، في التأكيد والإحكام، ومن هاهنا قالوا: إن الشيء إذا أضمر، ثم فسر كان ذلك أفخم له من أن يذكر من غير تقدم إضمار، ويدل على صحة ما قالوه أنا نعلم ضرورة في قوله تعالى: " فإنها لا تعمى الأبصار " فخامة وشرفاً وروعة لا نجد منها شيئاً في قولنا: فإن الأبصار لا تعمى. وكذلك السبيل أبداً في كل كلام كان فيه ضمير قصة. فقوله تعالى: " إنه لا يفلح الكافرون " يفيد من القوة في نفي الفلاح عن الكافرين ما لو قيل: إن الكافرين لا يفلحون، لم يفد ذلك، ولم يكن ذلك كذلك إلا لأنك تعلمه إياه من بعد تقدمة وتنبيه أنت به في حكم من بدأ وأعاد ووطد، ثم بين ولوح ثم صرح. ولا يخفى مكان المزية فيما طريقه هذا الطريق.
ويشهد لما قلنا من أن تقديم المحدث عنه يقتضي تأكيد الخبر وتحقيقه له أنا إذا تأملنا وجدنا هذا الضرب من الكلام يجيء فيما سبق فيه إنكار من منكر، نحو أن يقول الرجل: ليس لي علم بالذي تقول، فتقول له: أنت تعلم أن الأمر على ما أقول، ولكنك تميل إلى خصمي. وكقول الناس: هو يعلم ذاك وإن أنكر، وهو يعلم الكذب فيما قال وإن حلف عليه. وكقوله له تعالى: " ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون " فهذا من أبين شيء وذاك أن الكاذب لا سيما في الدين لا يعترف بأنه كاذب، وإذا لم يعترف بأنه كاذب كان أبعد من ذلك أن يعترف بالعلم بأنه كاذب، أو يجيء فيما اعترض فيه شك نحو أن يقول الرجل: كأنك لا تعلم ما صنع فلان ولم يبلغك، فيقول: أنا أعلم ولكني أداريه، أو في تكذيب مدع كقوله عز وجل: " وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ". وذلك أن قولهم: آمنا، دعوى منهم أنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به، فالموضع موضع تكذيب. أو فيما القياس في مثله أن لا يكون كقوله تعالى: " واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون " وذلك أن عبادتهم لها تقتضي أن لا تكون مخلوقة. وكذلك في كل شيء كان خبراً على خلاف العادة، وعما يستغرب من الأمر، نحو أن نقول: ألا تعجب من فلان يدعي العظيم، وهو يعيا باليسير، ويزعم أنه شجاع وهو يفزع من أدنى شيء؟. ومما يحسن ذلك فيه ويكثر الوعد والضمان كقول الرجل: أنا أعطيك، أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر. وذلك أن من شأن من تعده وتضمن له أن يعترضه الشك في تمام الوعد وفي الوفاء به، فهو من أحوج شيء إلى التأكيد. وكذلك يكثر في المدح كقولك: أنت تعطي الجزيل، أنت تقري في المحل، أنت تجود حين لا يجود أحد. وكما قال، من الكامل:
ولأنت تفري ما خلقت، وبع | ض القوم يخلق، ثم لا يفري |
نحن في المشتاة ندعو الجفلى