يقول في جارية كان يحبها، وسعي به إلى أهلها، فمنعوها منه. والمقصود قوله: " غضبى "، وذلك أن التقدير هي غضبى أو غضبى هي لا محالة، ألا ترى أنك ترى النفس كيف تتفادى من إظهار هذا المحذوف؟ وكيف تأنس إلى إضماره. وترى الملاحة كيف تذهب إن أنت رمت التكلم به.
ومن جيد الأمثلة في هذا الباب قول الآخر يخاطب امرأته وقد لامته على الجود، من الكامل:
قالت سمية: قد غوبت، بأن رأت... حقاً تناوب مالنا ووفودا
غي لعمرك لا أزال أعوده... ما دام مال عندنا موجودا
المعنى: ذاك غي لا أزال أعود إليه فدعي عنك لومي.
وإذ قد عرفت هذه الجملة من حال الحذف في المبتدأ فاعلم أن ذلك سبيله في كل شيء، فما من اسم أو فعل تجلى قد حذف، ثم أصيب به موضعه، وحذف في الحال، ينبغي أن يحذف فيها إلا وأنت تجد حذفه هناك أحسن من ذكره، وترى إضماره في النفس أولى وآنس من النطق به.
وإذ قد بدأنا في الحذف بذكر المبتدأ، وهو حذف اسم، إذ لا يكون المبتدأ اسماً، فإني اتبع ذلك ذكر المفعول به إذا حذف خصوصاً، فإن الحاجة إليه أمس، وهو نحن به أخص، واللطائف كأنها فيه أكثر، وما يظهر بسببه من الحسن والرونق أعجب وأظهر.
وهاهنا أصل يجب ضبطه، وهو أن حال الفعل مع المفعول الذي يتعدى إليه حاله مع الفاعل. وكما أنك إذا قلت: ضرب زيد. فأسندت الفعل إلى الفاعل كان غرضك من ذلك أن تثبت الضرب فعلاً له، لا أن تفيد وجود الضرب في نفسه، وعلى الإطلاق. كذلك إذا عديت الفعل إلى المفعول فقلت: ضرب زيد عمراً. كان غرضك أن تفيد التباس الضر الواقع من الأول بالثاني، ووقوعه عليه، فقد اجتمع الفاعل والمفعول في أن عمل الفعل فيهما. إنما كان من أجل أن يعلم التباس المعنى الذي اشتق منه بهما. فعمل الرفع الفاعل، ليعلم التباس الضرب به من جهة وقوعه منه، والنصب في المفعول، ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه. ولم يكن ذلك ليعلم وقوع الضرب في نفسه. بل إذا أريد الإخبار بوقوع الضرب ووجوده في الجملة، من غير أن ينسب إلى فاعل أو مفعول أو يتعرض لي ذلك بالعبارة فيه أن يقال: كان ضرب، أو وقع ضرب، أو وجد ضرب. وما شاكل ذلك ألفاظ تفيد الوجود المجرد في الشيء.
وإذ قد عرفت هذه الجملة فاعلم أن أغراض الناس تختلص في ذكر الأفعال المتعدية فهم يذكرونها تارة ومرادهم أن يقتصروا على إثبات المعاني التي اشتقت منها للفاعلين من غير أن يتعرضوا لذكر المفعولين. فإذا كان الأمر كذلك كان الفعل المتعدي كغير المتعد مثلاً في أنك لا ترى مفعولاً لا لفظاً ولا تقديراً. ومثال ذلك قول الناس: فلان يحل ويعقد ويأمر وينهى، ويضر وينفع. وكقولهم: هو يعطي ويجزل، ويقري ويضيف. المعنى في جميع ذلك على إثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق وعلى الجملة من غير أن يتعرض لحديث المفعول، حتى كأنك قلت: صار إليه الحل والعقد، وصار بحيث يكون منه حل وعقد وأمر ونهي وضر ونفع، وعلى هذا القياس. وعلى ذلك قوله تعالى: " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " المعنى: هل يستوي من له علم ومن لا علم له، من غير أن يقصد النص على معلوم. وكذلك قوله تعالى: " وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيا " وقوله: " وأنه هو أغنى وأقنى " المعنى: هو الذي منه الإحياء و الإماتة والإغناء والإقناء.
وهكذا كل موضع كان القصد فيه أن يثبت المعنى في نفسه فعلاً للشيء، وأن يخبر بأن من شأنه أن يكون منه، أو لا يكون إلا منه، أو لا يكون منه. فإن الفعل لا يعدى هناك، لأن تعديته تنقص الغرض وتغير المعنى. ألا ترى أنك إذا قلت: هو يعطي الدنانير، كان المعنى على أنك قصدت أن تعلم السامع أن الدنانير تدخل في عطائه، أو أنه يعطيها خصوصاً دون غيرها، وكان غرضك على الجملة بيان جنس ما تناوله الإعطاء لا الإعطاء في نفسه. ولم يكن كلامك مع من نفى أن يكون كان منه إعطاء بوجه من الوجوه بل مع من أثبت له إعطاء. إلا أنه لم يثبت إعطاء الدنانير فاعرف ذلك، فإنه أصل كبير عظيم النفع. فهذا قسم من خلو الفعل عن المفعول، وهو أن لا يكون له مفعول يمكن النص عليه.