ولما لم تعرف هذه الطائفة هذه الدقاثق، وهذه الخواص واللطائف لم تتعرض لها ولم تطلبها. ثم عن لها بسوء الاتفاق رأي صار حجازا بينها وبين العلم بها، وسداً دون أن تصل إليها. وهو أن ساء اعتقادها في الشعر الذي هو معدنها، وعليه المعول فيها، وفي علم الإعراب الذي هو لها كالناسب الذي ينميها إلى أصولها، ويبين فاضلها من مفضولها. فجعلت تظهر الزهد في كل واحد من النوعين، وتطرح كلاً من الصنفين، وترى التشاغل عنهما أولى من الاشتغال بهما، والإعراض عن تدبرهما أصوب من الإقبال على تعلمهما.
أما الشعر فخيل إليها أنه ليس فيه كثير طائل، وأن ليس إلا ملحة أو فكاهة أو بكاء منزل أو وصف طلل، أو نعت ناقة أو جمل، أو إسراف قول في مدح أو هجاء، وأنه ليس بشيء تمس الحاجة إليه في صلاح ديني أو دنيا.
وأما النحو فظنته ضرباً من التكلف، وباباً من التعسف، وشيئاً لا يستند إلى أصل، ولا يعتمد فيه على عقل. وأن ما زاد منه على معرفة الرفع والنصب، وما يتصل بذلك مما تجده في المبادئ فهو فضل، لا يجدي نفعاً، ولا تحصل منه على فائدة. وضربوا له المثل بالملح كما عرفت إلى أشباه لهذه الظنون في القبيلين وآراء لو علموا مغبتها وما تقود إليه لتعوذوا بالله منها، ولأنفوا لأنفسهم من الرضا بها، ذاك لأنهم بإيثارهم الجهل بذلك على العلم في معنى الصاد عن سبيل الله، والمبتغي إطفاء نور الله تعالى.
وذاك أنا إذا كنا نعلم أن الجهة التي منها قامت الحجة بالقرآن وظهرت، وبانت وبهرت، هي أن كان على حد من الفصاحة تقصر عنه قوى البشر، ومنتهياً إلى غاية لا يطمح إليها بالفكر. وكان محالاً أن يعرف كونه كذلك إلا من عرف الشعر الذي هو ديوان العرب، وعنوان الأدب، والذي لا يشك أنه كان ميدان القوم إذا تجاروا في الفصاحة والبيان، وتنازعوا فيهما قصب الرهان. ثم بحث عن العلل التي بها كان التباين في الفضل، وزاد بعض الشعر على بعض، كان الصاد عن ذلك صاداً عن أن تعرف حجة الله تعالى. وكان مثله مثل من يتصدى للناس، فيمنعهم عن أن يحفظوا كتاب الله تعالى، ويقوموا به، ويتلوه ويقرؤوه. ويصنع في الجملة صنيعاً يؤدي إلى أن يقل حفاظه، والقائمون به والمقرئون له. ذاك لأنا لم نتعبد بتلاوته وحفظه، والقيام بأداء لفظه، على النحو الذي أنزل عليه، وحراسته من أن يغير ويبذل، إلا لتكون الحجة به قائمة على وجه الدهر تعرف في كل زمان، ويتوصل إليها في كل أوان، ويكون سبيلها سبيل سائر العلوم التي يرويها الخلف عن السلف، ويأثرها الثاني عن الأول. فمن حال بيننا وبين ماله كان حفظنا إياه، واجتهادنا في أن نؤديه ونرعاه، كان كمن رام أن ينسيناه جملة، ويذهبه من قلوبنا دفعة.
فسواء من منعك الشيء الذي ينتزع منه الشاهد والدليل، ومن منعك السبيل إلى انتزاع تلك الدلالة، والاطلاع على تلك الشهادة. ولا فرق بين من أعدمك الدواء الذي تستشفي به من دائك، وتستبقي به حشاشة نفسك، وبين من أعدمك العلم بأن فيه شفاء، وأن لك فيه استبقاء.
فإن قال منهم قائل: إنك قد أغفلت فيما رتبت، فإن لنا طريقاً إلى إعجاز القرآن غير ما قلت، وهو علمنا بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله، وتركهم أن يعارضوه مع تكرار التحدي عليهم وطول التقريع لهم بالعجز عنه. ولأن الأمر كذلك ما قامت به الحجة على العجم قيامها على العرب. واستوى الناس قاطبة فلم يخرج الجاهل بلسان العرب من أن يكون محجوجاً بالقرآن.