والوجه الثاني: أن تقصر جنس المعنى الذي تفيده بالخبر على المخبر عنه، لا على معنى المبالغة وترك الاعتداد بوجوده في غير المخبر عنه، بل على دعوى أنه لا يوجد إلا منه. ولا يكون ذلك إلا إذا قيدت المعنى بشيء يخصصه، ويجعله في حكم نوع برأسه، وذلك كنحو أن يقيد بالحال والوقت، كقولك: هو الوفي حين لا تظن نفس بنفس خيراً. وهكذا إذا كان الخبر بمعنى يتعدى، ثم اشترطت له مفعولاً مخصوصاً كقول الأعشى، من المتقارب:

هو الواهب المئة المصطفا ة إما مخاضاً وإما عشارا
فأنت تجعل الوفاء في الوقت الذي لا يفي فيه أحد نوعاً خاصاً من الوفاء. وكذلك تجعل هبة المئة من الإبل نوعاً خاصاً من الوفاء، وكذا الباقي. ثم إنك تجعل كل هذا خبراً على معنى الاختصاص، وأنه للمذكور دون من عداه، ألا ترى أن المعنى في بيت الأعشى أنه لا يهب هذه الهبة إلا الممدوح، وربما ظن أن اللام في:
هو الواهب المئة المصطفاة
بمنزلتها في نحو: ريد هو المنطلق، من حيث كان القصد إلى هبة مخصوصة كما كان القصد إلى انطلاق مخصوص وليس الأمر كذلك لأن القصد هاهنا إلى جنس من الهبة مخصوص، لا إلى هبة مخصوصة بعينها. يدلك على ذلك أن المعنى على أنه يتكرر منه، وعلى أنه يجعله يهب المئة مرة بعد أخرى. وأما المعنى في قولك: زيد هو المنطلق، فعلى القصد إلى انطلاق كان مرة واحدة لا إلى جنس من الانطلاق. فالتكرر هناك غير متصور، كيف وأنت تقول: جرير هو القائل؟
وليس لسيفي في العظام بقية
تريد أن تثبت له قيل هذا البيت وتأليفه. فافصل بين أن تقصد إلى نوع فعل، وبين أن تقصد إلى فعل واحد، متعين حاله في المعاني حال زيد في الرجال في أنه ذات بعينها.
والوجه الثالث أن لا تقصد قصر المعنى في جنسه على المذكور، لا كما كان في: زيد هو الشجاع، تريد أن لا تعتد بشجاعة غيره، ولا كما ترى في قوله:
هو الواهب المئة المصطفاة
لكن على وجه ثالث وهو الذي عليه قول الخنساء، من الوافر:
إذا قبح البكاء على قتيل رأيت بكاءك الحسن الجميلا
لم ترد أن ما عدا البكاء عليه فليس بحسن ولا جميل، ولم تقيد الحسن بشيء، فيتصور أن يقصر على البكاء كما قصر الأعشى هبة المئة على الممدوح. ولكنها أرادت أن تقره في جنس ما حسنه الحسن الظاهر الذي لا ينكره أحد، ولا يشك فيه شاك. ومثله قول حسان، من الطويل:
وإن سنام المجد من آل هاشم بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
أراد أن يثبت العبودية، ثم يجعله ظاهر الأمر فيها، ومعروفاً بها. ولو قال: ووالدك عبد، لم يكن قد جعل حاله في العبودية حالة ظاهرة متعارفة. وعلى ذلك قول الآخر، من الطويل:
أسود إذا ما أبدت الحرب نابها وفي سائر الدهر الغيوث المواطر
واعلم أن للخبر المعرف بالألف واللام معنى غير ما ذكرت لك، وله مسلك ثم دقيق، ولمحة كالخلس يكون المتأمل عنده، كما يقال يعرف وينكر، وذلك قولك: هو البطل المحامي، وهو المتقى المرتجى. وأنت لا تقصد شيئاً مما تقدم، فلست تشير إلى معنى قد علم المخاطب أنه كان، ولم يعلم ممن كان، كما مضى في قولك: زيد هو المنطلق. ولا تريد أن تقصر معنى عليه على معنى أنه لم يحصل لغيره على الكمال، كما كان في قولك: لكنك تريد أن تقول لصاحبك: هل سمعت بالبطل المحامي؟ وهل حصلت معنى هذه الصفة؟ وكيف ينبغى أن يكون الرجل حتى يستحق أن يقال ذلك له وفيه؟ فإن كنت قتلته علماً وتصورته حق تصوره فعليك صاحبك واشدد به يدك، فهو ضالتك، وعنده بغيتك وطريقه طريق قولك: هل سمعت بالأسد؟ وهل تعرف ما هو؟ فإن كنت تعرفه فزيد هو بعينه.
ويزداد هذا المعنى ظهوراً بأن تكون الصفة التي تريد الإخبار بها عن المبتدأ مجراة على موصوف كقول ابن الرومي، من الطوبل:


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2025
Icon
هو الرجل المشروك في جل ماله ولكنه بالمجد والحمد مفرد