وإذا كان كذلك بان أنه لا يكون بمنزلة أنت الشجاع. تريد الذي تكامل الوصف فيه. إلا أنه ينبغي من بعد أن تعلم أن بين أنت الحبيب، وبين زيد المنطلق فرقاً، وهو أن لك في المحبة التي أثبتها طرفاً من الجنسية من حيث كان المعنى أن المحبة مني بجملتها مقصورة عليك، ولم تعمد إلى محبة واحدة من محباتك. ألا ترى أنك قد أعطيت بقولك: أنت الحبيب، أنك لا تحب غيره، وأن لا محبة لأحد سواه عندك. ولا يتصور هذا في زيد المنطلق لأنه لا وجه هناك للجنسية، إذ ليس ثم إلا انطلاق واحد قد عرف المخاطب أنه كان، واحتاج أن يعين له الذي كان منه، وينص له عليه. فإن قلت: زيد المنطلق في حاجتك، تريد الذي من شأنه أن يسعى في حاجتك عرض فيه معنى الجنسية حينئذ على حدها في أنت الحبيب.
وهاهنا أصل يجب أن تحكمه، وهو أن من شأن أسماء الأجناس كلها إذا وصفت أن تتنوع بالصفة، فيصير الرجل الذي هو جنس واحد إذا وصفته فقلت: رجل ظريف، ورجل قصير، ورجل شاعر، ورجل كاتب أنواعاً مختلفة يعد كل منها شيئاً على حدة. ويستأنف في اسم الرجل بكل صفة تقرنها إليه جنسية. وهكذا القول في المصادر تقول: العلم، والجهل والضرب، والقتل، والسير، والقيام، والقعود. فتجد كل واحد من هذه المعاني جنساً كالرجل، والفرس، والحمار. فإذا وصفت فقلت: علم كذا وعلم كذا، كقولك: علم ضروري، وعلم مكتسب، وعلم جلي، وعلم خفي، وضرب شديد، وضرب خفيف، وسير سريع، وسير بطيء، وما شاكل ذلك. انقسم الجنس منها أقساماً وصار أنواعاً، وكان مثلها مثل الشيء المجموع المؤلف تفرقه فرقاً، وتشعبه شعباً. وهذا مذهب معروف عندهم، وأصل متعارف في كل جيل وأمة ثم إن هاهنا أصلاً هو كالمتفرع على هذا الأصل، أو كالنظير له. وهو أن من شأن المصدر أن يفرق بالصلات، كما يفرق بالصفات. ومعنى هذا الكلام أنك تقول: الضرب فتراه جنساً واحداً، فإذا قلت: الضرب بالسيف، صار تعديتك له إلى السيف نوعاً مخصوصاً. ألا تراك تقول: الضرب بالسيف غير الضرب بالعصا؟ تريد أنهما نوعان مختلفان، وأن اجتماعهما في اسم الضرب لا يوجب اتفاقهما، لأن الصلة قد فصلت بينهما وفرقتهما. ومن المثال البين في ذلك قول المتنبي، من الكامل:

وتوهموا اللعب الوغى، والطعن في ال هيجاء غير الطعن في الميدان
لولا أن اختلاف صلة المصدر تقتضي اختلافه في نفسه، وأن يحدث في انقسام وتنوع لما كان لهذا الكلام معنى، ولكان في الاستحالة كقولك: والطعن غير الطعن. فقد بان إذاً أنه إنما كان كل واحد من الطعنين جنساً برأسه غير الآخر بأن كان هذا في الهيجاء وذاك في الميدان. وهكذا الحكم في كل شيء تعدى إليه المصدر، وتعلق به. فاختلاف مفعولي المصدر يقتضي اختلافه. وأن يكون المتعدي إلى هذا المفعول غير المتعدي إلى ذاك. وعلى ذلك تقول: ليس إعطاؤك الكثير كإعطائك القليل. وهكذا إذا عديته إلى الحال كقولك: ليس إعطاؤك معسراً كإعطائك موسراً. وليس بذلك وأنت مقل كبذلك وأنت مكثر. وإذ قد عرفت هذا من حكم المصدر فاعتبر به حكم الاسم المشتق منه.
وإذا اعتبرت ذلك علمت أن قولك: هو الوفي حين لا يفي أحد، وهو الواهب المئة المصطفاة. وقوله، من الخفيف:
وهو الضارب االكتيبة والطع نة تغلو والضرب أغلى وأغلى
وأشباه ذلك كلها أخبار فيها معنى الجنسية، وأنها في نوعها الخاص بمنزلة الجنس المطلق إذا جعلته خبراً فقلت: أنت الشجاع. وكما أنك لا تقصد بقولك: أنت الشجاع إلى شجاعة بعينها قد كانت وعرفت من إنسان. وأردت أن تعرف ممن كانت بل تريد أن تقصر جنس الشجاعة عليه، ولا تجعل لأحد غيره فيه حظاً. كذلك لا تقصد بقولك: أنت الوفي حين لا يفي أحد إلى وفاء واحد، كيف وأنت تقول: حين لا يفي أحد. وهكذا محال أن يقصد من قوله: هو الواهب المئة المصطفاة إلى هبة واحدة، لأنه يقتضي يقصد إلى مئة من الإبل قد وهبها مرة، ثم لم يعد لمثلها. ومعلوم أنه خلاف الغرض المعنى أنه الذي من شأنه أن يهب المئة أبداً، والذي يبلغ عطاؤه هذا المبلغ كما تقول: الذي يعطي مادحه الألف والألفين، وكقوله، من الرجز:
وحاتم الطائي وهاب المئي


الصفحة التالية
Icon