وفي تمييز ما يقتضي الواو مما لا يقتضيه صعوبة. والقول في ذلك أن الجملة إذا كانت من مبتدأ وخبر فالغالب عليها أن تجيء مع الواو كقولك: جاءني زيد وعمرو أمامه، وأتاني وسيفه على كتفه. فإن كان المبتدأ من الجملة ضمير في الحال لم يصلح بغير الواو البتة، وذلك كقولك: جاءني زيد وهو راكب، ورأيت زيداً وهو جالس، ودخلت عليه وهو يملي الحديث وانتهيت إلى الأمير وهو يعبىء الجيش. فلو تركت الواو في شيء من ذلك لم يصلح. فلو قلت: جاءني زيد هو راكب، ودخلت عليه هو يملي الحديت، لم يكن كلاماً. كان الخبر في الجملة من المبتدأ والخبر ظرفاً، ثم كان قد قدم على المبتدأ كقولنا: عليه سيف وفي يده سوط، كثر فيها أن تجيء بغير واو. فمما جاء منه كذلك قول بشار، من الطويل:
إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها... خرجت مع البازي علي سواد
يعني: علي بقية من الليل.
وقول أمية، من البسيط:
فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً... في رأس غمدان داراً منك محلالاً
وقول الآخر، من الطويل:
لقد صبرت للذل أعواد منبر... تقوم عليها في يديك قضيب
كل ذلك في موضع الحال، وليس فيه واو كما ترى، ولا هو محتمل لها إذا نظرت.
وقد يجيء ترك الواو فيما ليس الخبر فيه كذلك، ولكنه لا يكثر. فمن ذلك قولهم: كلمته فوه إلى في، ورجع عوده على بدئه في قول من رفع، ومنه بيت الإصلاح، من الكامل:
نصف النهار الماء غامره... ورفيقه بالغيب لا يدري
ومن ذلك ما أنشده الشيخ أبو علي في الإغفال، من الطويل:
ولولا جنان الليل ما آب عامر... إلى جعفر، سرباله لم يمزق
ومما ظاهره أنه منه قوله، من البسيط:
إذا أتيت أبا مروان تسأله... وجدته حاضراه: الجود والكرم
فقوله: حاضراه الجود: جملة من المبتدأ والخبر كما ترى، وليس فيها واو، والموضع موضع حال، ألا تراك تقول: أتيته فوجدته جالساً؟ فيكون جالساً حالاً، ذاك لأن وجدت في مثل هذا من الكلام لا تكون المتعدية إلى مفعولين ولكن المتعدية إلى مفعول واحد كقولك: وجدت الضالة. إلا أنه ينبغي أن تعلم أن لتقديمه الخبر الذي هو حاضراه تأثيراً في معنى الغنى عن الواو، وأنه لو قال: وجدته الجود والكرم حاضراه، لم يحسن حسنه الآن. وكان السبب في حسنه مع التقديم أنه يقرب في المعنى من قولك: وجدته حاضره الجود والكرم، أو حاضراً عنده الجود والكرم.
وإن كانت الجملة من فعل وفاعل، والفعل مضارع مثبت غير منفي لم يكد يجيء بالواو، بل ترى الكلام على مجيئها عارية من الواو كقولك: جاءني زيد يسعى غلامه بين يديه. وكقوله، من البسيط:
وقد علوت قتود الرحل يسفعني... يوم قديديمة الجوزاء مسموم
وقوله، من الخفيف:
ولقد أغتدي يدافع ركني... أحوذي ذو ميعة إضريج
وكذلك قولك: جاءني زيد يسرع. لا فصل بين أن يكون الفعل لذي الحال، وبين أن يكون لمن هو من سببه، فإن ذلك كله يستمر على الغنى عن الواو. وعليه التنزيل والكلام ومثاله في التنزيل قوله عز وجل " ولا تمنن تستكثر "، وقوله تعالى: " وسيجنبها الأتقى. الذي يؤتي ماله يتزكى "، وكقوله عز آسمه " ويذرهم في طغيانهم يعمهون ". فأما قول ابن همام السلولي، من المتقارب:
فللما خشيت أظافيره... نجوت وأرهنهم مالكا
في رواية من روى وأرهنهم وما شبهوه به من قولهم: قمت وأصك وجهه. فليست الواو فيها للحال، وليس المعنى: نجوت راهناً مالكاً، وقمت صاكا وجهه ولكن أرهن وأصك حكاية حال، مثل قوله، من الكامل:
ولقد أمر على اللئيم يسبني... فمضيت ثمت قلت: لايعنيني