وغلط الناس في هذا الباب كثير، فمن ذلك أنك تجد كثيراً ممن يتكلم في شأن البلاغة إذا ذكر أن للعرب الفصل والمزية في حسن النظم والتأليف، وأن لها في ذلك شأوا لا يبلغه الدخلاء في كلامهم والمولدون، جعل يعلل ذلك بأن يقول: لا غرو فإن اللغة لها بالطبع ولنا بالتكلف، ولن يبلغ الدخيل في اللغات والألسنة مبلغ من نشأ عليها، وبدأ من أول خلقه بها. وأشباه هذا مما يوهم أن المزية أتتها من جانب العلم باللغة، وهو خطأ عظيم منكر يفضي بقائله إلى رفع الإعجاز من حيث لا يعلم وذلك أنه لا يثبت إعجاز حتى تثبت مزايا تفوق علوم البشر، وتقصر قوى نظرتهم عنها، ومعلومات ليس في منن أفكارهم خواطرهم أن تفضي، بهم إليها، وأن تطلعهم عليها. وذلك محال فيما كان علما باللغة، لأنه يؤدي إلى أن يحدث في دلائل اللغة ما لم يتواضع عليه أهل اللغة، وذلك ما لا يخفى امتناعه على عاقل.
واعلم أنا لم نوجب المزية من أجل العلم بأنفس الفروق والوجوه فنستند إلى اللغة ولكنا أوجبناها للعلم بمواضعها، وما ينبغي أن يصنع فيها. فليس الفصل للعلم بأن الواو للجمع، والفاء للتعقيب بغير تراخ، وثم له بشرط التراخي. و إنلك لذا، وإذا لكذا.
ولكن لأن يتأتى لك إذا نظمت شعراً، وألفت رسالة أن تحسن التخير، وأن تعرف لكل من ذلك موضعه.
وأمر آخر إذا تأمله الإنسان أنف من حكاية هذا القول فضلاً عن اعتقاده، وهو أن المزية لو كانت تجب من أجل اللغة والعلم بأوضاعها، وما أراده الواضع فيها لكان ينبغي أن لا تجب إلا بمثل الفرق بين الفاء وثم، وإن وإذا، وما أشبه ذلك مما يعثر عنه وضع لغوي. فكانت لا تجب بالفصل، وترك العطف بالحذف، والتكرار، والتقديم والتأخير، وسائر ما هو هيئة يحدثها لك التأليف، ويقتضيها الغرض الذي تؤم، والمعنى الذي تقصد، وكان ينبغي أن لا تجب المزية بما يبتدئه الشاعر، والخطيب في كلامه من استعارة اللفظ لشيء لم يستعر له، وأن لا تكون الفضيلة إلا في استعارة قد تعورفت في كلام العرب، وكفى بذلك جهلاً.
ولم يكن هذا الاشتباه وهذا الغلط إلا لأنه ليس في جملة الخفايا والمشكلات أغرب مذهباً في الغموض، ولا أعجب شأناً من هذه التي نحن بصددها، ولا أكثر تفلتاً من الفهم وانسلالاً منها. وأن الذي قاله العلماء والبلغاء في صفتها والإخبار عنها رموز لا يفهمها إلا من هو في مثل حالهم من لطف الطبع، ومن هو مهيأ لفهم تلك الإشارات. حتى كأن تلك الطباع اللطيفة، وتلك القرائح والأذهان قد تواضعت فيما بينها على ما سبيله سبيل الترجمة يتواطأ عليها قوم، فلا تعدوهم، ولا يعرفها من ليس منهم.
وليت شعري من أين لمن لم يتعب في هذا الشأن، ولم يمارسه، ولم يوفر عنايته عليه أن ينظر إلى قول الجاحظ وهو يذكر إعجاز القرآن: ولو أن رجلاً قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة قصيرة أو طويلة. لتبين له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها وقوله وهو يذكر رواة الأخبار: ورأيت عامتهم فقد طالت مشاهدتي لهم وهم لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيرة، والمعاني المنتخبة، والمخارج السهلة، والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكن، وعلى السبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق وقوله في بيت الحطيئة، من الطويل:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره | تجد خير نار عندها خير موقد |