لا يكون لإحدى العبارتين مزية على الأخرى حتى يكون لها في المعنى تأثير لا يكون لصاحبتها. فإن قلت: فإذا أفادت هذه ما لا تفيد تلك فليستا عبارتين عن معنى واحد بل هما عبارتان عن معنيين اثنين، قيل لك: إن قولنا: المعنى في مثل هذا يراد به الغرض. والذي أراد المتكلم أن يثبته أو ينفيه، نحو: إن تقصد تشبيه الرجل بالأسد فتقول: زيد كالأسد، ثم تريد هذا المعنى بعينه فتقول: كأن زيداً الأسد. فتفيد تشبيهه أيضاً بالأسد إلا أنك تزيد في معنى تشبيهه به زيادة لم تكن في الأول، وهي أن تجعله من فرط شجاعته وقوة قلبه، وأنه لا يروعه شيء بحيث لا يتميز عن الأسد، ولا يقصر عنه، حتى يتوهم أنه أسد في صورة آدمي. وإذا كان هذا كذلك فانظر هل كانت هذه الزيادة، وهذا الفرق، إلا بما توخي في نظم اللفظ وترتيبه؟ حيث قدم الكاف إلى صدر الكلام، وركبت مع أن. وإذا لم يكن إلى الشك سبيل أن ذلك كان بالنظم فاجعله العبرة في الكلام كله، ورض نفسك على تفهم ذلك وتتبعه واجعل فيها أنك تزوال منه أمراً عظيماً لا يقادر قدره، وتدخل في بحر عميق لا يدرك قعره.
فن آخره يرجع إلى هذا الكلام
قد علم أن المعارض للكلام معارض له من الجهة التي منها يوصف بأنه فصيح وبليغ ومتخير اللفظ، جيد السبك، ونحو ذلك من الأوصاف التي نسبوها إلى اللفظ.
وإذا كان هذا هكذا فبنا أن ننظر فيما إذا أتي به كان معارضاً ما هو؟ أهو أن يجيء بلفظ فيضعه مكان لفظ آخر، نحو أن يقول بدل أسد: ليث، وبدل بعد: نأى، ومكان قرب: دنا. أم ذلك ما لا يذهب إليه عاقل، ولا يقوله من به طرق؟ كيف ولو كان ذلك معارضة لكان الناس لا يفصلون بين الترجمة والمعارضة. ولكان كل من فسر كلاماً معارضاً له وإذا بطل أن يكون جهة للمعارضة، وأن يكون الواضع نفسه في هذه المنزلة معارضاً له وإذا بطل أن يكون جهة للمعارضة، وأن يكون الواضع نفسه في هذه المنزلة معارضاً على وجه من الوجوه علمت أن الفصاحة والبلاغة وسائر ما يجري في طريقهما أوصاف راجعة المعاني، وإلى ما يدل عليه بالألفاظ دون الألفاظ أنفسها، لأنه إذا لم يكن في القسمة إلا المعاني والألفاظ، وكان لا يعقل تعارض في الألفاظ المجردة إلا ما ذكرت لم يبق إلا أن تكون المعارضة معارضة من جهة ترجع إلى معاني الكلام المعقولة دون ألفاظه المسموعة وإذا عادت المعارضة إلى جهة المعنى، وكان الكلام يعارض من حيث هو فصيح وبليغ ومتخير اللفظ حصل من ذلك أن الفصاحة والبلاغة وتخير اللفظ عبارة عن خصائص ووجوه تكون معاني الكلام عليها، وعن زيادات تحدث في أصول المعاني، كالذي أريتك فيما بين: زيد كالأسد و كأن زيداً الأسد. وبأن لا نصيب للألفاظ من حيث هي ألفاظ فيها بوجه من الوجوه.
واعلم أنك لا تشفي الغلة، ولا تنتهي إلى ثلج اليقين حتى تتجاوز حد العلم بالشيء مجملاً إلى العلم به مفصلاً، وحتى لا يقنعك إلا النظر في زواياه والتغلغل في مكامنه، وحتى تكون كمن تتبع الماء حتى عرف منبعه، وانتهى في البحث عن جوهر العود الذي يصنع فيه إلى أن يعرف منبته، ومجرى عروق الشجر الذي هو منه. وإنا لنراهم يقيسون الكلام في معنى المعارضة على الأعمال الصناعية كنسج الديباج، وصوغ الشنف والسوار، وأنواع ما يصاغ وكل ما هو صنعة وعمل يد بعد أن يبلغ مبلغاً يقع التفاضل فيه، يعظم حتى يزيد فيه الصانع على الصانع زيادة يكون له بها صيت، ويدخل في حد ما يعجز عنه الأكثرون.


الصفحة التالية
Icon