كحاله وموقعه إذا أنت تركت المجاز وقلت: فنمت في ليلي وتجلى همي، كما لم يكن الحال في قولك: رأيت رجلاً كالأسد. ومن ذا الذي يخفى عليه مكان العلو، وموضع المزية، وصورة الفرقان بين قوله تعالى: " فما ربحت تجارتهم "، وبين أن يقال: فما ربحوا في تجارتهم؟ وإن أردت أن تزداد للأمر تبيناً فانظر إلى بيت الفرزدق، من الكامل:
يحمي، إذا اخترط السيوف نساءنا،... ضرب تطير له السواعد أرعل
وإلى رونقه ومائه، وإلى ما عليه من الطلاوة. ثم ارجع إلى الذي هو الحقيقة، وقل: نحمي إذا اخترط السيوف نساءنا بضرب تطير له السواعد أرعل، ثم اسبر حالك هل ترى مما كنت تراه شيئاً؟.
وهذا الضرب من المجاز على حدته كنز من كنوز البلاغة، ومادة الشاعر المفلق، والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان، والاتساع في طرق البيان. وأن تجيء بالكلام مطبوعاً مصنوعاً، وأن يضعه بعيد المرام، قريباً من الأفهام. ولا يغرنك من أمره أنك ترى الرجل يقول: أتى بي الشوق إلى لقائك، وسار بي الحنين إلى رؤيتك، وأقدمني بلدك حق لي على إنسان، وأشباه ذلك مما تجده لسعته وشهرته يجري مجرى الحقيقة التي لا يشكل أمرها، فليس هو كذلك أبداً، بل يدق ويلطف حتى يمتنع مثله إلا على الشاعر المفلق، والكاتب البليغ، وحتى يأتيك بالبدعة لم تعرفها، والنادرة تأنق بها.
وجملة الأمر أن سبيله سبيل الضرب الأول الذي هو مجاز في نفس اللفظ وذات الكلمة. فكما أن من الاستعارة والتمثيل عامياً مثل: رأيت أسداً، ووردت بحراً، وشاهدت بدراً، وسل من رأيه سيفاً ماضياً. وخاصياً لا يكمل له كل أحد مثل قوله:
وسالت بأعناق المطي الأباطح
كذلك الأمر في هذا المجاز الحكمي.
واعلم أنه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التقدير، إذا أنت نقلت الفعل إليه عدت به إلى الحقيقة مثل أن تقول في " ربحت تجارتهم " : ربحوا في تجارتهم، وفي يحمي نساءنا ضرب: نحمي نساءنا بضرب، فإن ذلك لا يتأتى في كل شيء. ألا ترى أنه لا يمكنك أن تثبت للفعل في قولك: أقدمني بلدك حق لي على إنسان: فاعلاً سوى الحق؟ وكذلك لا تستطيع في قوله، من مجزوء الوافر:
وصيرني هواك وبي... لحيني يضرب المثل
وقوله، من مجزوء الوافر،
يزيدك وجهه حسناً... إذا ما زدته نظرا
أن تزعم أن لصيرني فاعلاً قد نقل عنه الفعل، فجعل للهوى كما فعل ذلك ربحت تجارتهم، ويحمي نساءنا ضرب، ولا تستطيع كذلك أن تقدر ليزيد في قوله يزيدك وجهه، فاعلاً غير الوجه. فالاعتبار إذاً بأن يكون المعنى الذي يرجع إليه الفعل موجوداً في الكلام على حقيقته. معنى ذلك أن القدوم في قولك: أقدمني بلدك حق على إنسان، موجود على الحقيقة، وكذلك الصيرورة في قوله: وصيرني هواك، والزيادة في قوله يزيدك وجهه موجودتان على الحقيقة. وإذا كان معنى اللفظ موجوداً على الحقيقة لم يكن المجاز فيه نفسه. وإذا لم يكن المجاز في نفس اللفظ كان لا محالة في الحكم. فاعرف هذه الجملة، وأحسن ضبطها حتى تكون على بصيرة من الأمر.
ومن اللطيف في ذلك قول حاجز بن عوف، من الوافر:
أبي عبر الفوارس يوم داج... وعمي مالك وضع السهاما
فلو صاحبتنا لرضيت عنا... إذا لم تغبق المئة الغلاما
يريد إذا كان العام عام جدب، وجفت ضروع الإبل، وانقطع الدر حتى إن جلب منها مئة لم يحصل من لبنها ما يكون غبوق غلام واحد. فالفعل الذي هو غبق مستعمل في نفسه على حقيقته، غير مخرج عن معناه، وأصله إلى معنى شيء آخر. فيكون قد دخله مجاز في نفسه. وإنما المجاز في أن أسند إلى الإبل، وجعل فعلاً لها. وإسناد الفعل إلى الشيء حكم في الفعل، وليس هو نفس مجنى الفعل، فاعرفه.
واعلم أن من سبب اللطف في ذلك أنه ليس كل شيء يصلح لأن يتعاطى فيه المجاز الحكمي بسهولة، بل تجدك في كثير من الأمر وأنت تحتاج إلى أن تهيء الشيء وتصلحه لذلك بشيء تتوخاه في النظم. وإن أردت مثالاً في ذلك فانظر إلى قوله، من الطويل:
تناس طلاب العامرية إذ نأت... بأسجح مرقال الضحى قلق الضفر
إذا ما أحسته الأفاعي تميزت... شواة الأفاعي في مثلمة سمر
تجوب له الظلماء عين كأنها... زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر