ومن ذلك حديث كعب بن زهير: روي أن كعباً وأخاه بجيراً خرجا إلى رسول الله ﷺ حتى بلغا أبرق العزاف، فقال كعب لبجير: إلق هذا الرجل وأنا مقيم ها هنا فأنظر ما يقول. وقدم بجير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام فأسلم. وبلغ ذلك كعباً، فقال في ذلك شعراً. فأهدر النبي ﷺ دمه. فكتب إليه بجير يأمره أن يسلم ويقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: إن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قبل منه رسول الله، وأسقط ما كان قبل ذلك. قال: فقدم كعب وأنشد النبي قصيدته المعروفة، من البسيط:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول | متيم إثرها لم يفد مغلول |
وما سعاد غداة البين إذ رحلت | إلا أغن غضيض الطرف مكحول |
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت | كأنه منهل بالراح معلول |
سح السقاة عليها ماء محنية | من ماء أبطح أضحى وهو مشمول |
ويل امها خلة لو أنها صدقت | موعودها أو لو ان النصح مقبول |
إن الرسول لسيف يستضاء به | مهند من سيوف الله مسلول |
زالوا، فما زال أنكاس ولا كشف | عند اللقاء ولا ميل معازيل |
لايقع الطعن إلا في نحورهم | وما بهم عن حياض الموت تهليل |
شم العرانين أبطال لبوسهم | من نسج داود في الهيجا سرابيل |
وإن زعم أنه ذم الشعر من حيث هو موزون مقفى، حتى كأن الوزن عيب، وحتى كأن الكلام إذا نظم نظم الشعر اتضع في نفسه وتغيرت حاله، فقد أبعد، وقال قولاً لا يعرف له معنى، وخالف العلماء في قولهم: إنما الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، وقد روي ذلك عن النبي ﷺ مرفوعاً أيضاً.
فإن زعم أنه إنما كره الوزن لأنه سبب لأن يغنى في الشعر ويتلفى به، فإنا إذا كنا لم ندعه إلى الشعر من أجل ذلك، وإنما دعوناه إلى اللفظ الجزل والقول الفصل، والمنطق الحسن، والكلام البين، وإلى حسن التمثيل والاستعارة، وإلى التلويح والإشارة، وإلى صنعة تعمد إلى المعنى الخسيس فتشرفه، وإلى الضئيل فتفخمه، وإلى النازل فترفعه، وإلى الخامل فتنوه به، وإلى العاطل فتحليه، وإلى المشكل فتجفيه. فلا متعلق له علينا بما ذكر، ولا ضرر علينا بما أنكر، فليقل في الوزن ما شاء، وليضعه حيث أراد، فليس يعنينا أمره، ولا هو مرادنا من هذا الذي راجعنا القول فيه، وهذا هو الجواب لمتعلق إن تعلق بقوله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له ". وأراد أن يجعله حجة في المنع من الشعر، ومن حفظه وروايته. وذاك أنا نعلم أنه ﷺ لم يمنع الشعر من أجل أن كان قولاً فصلاً، وكلاماً جزلاً، ومنطقاً حسناً، وبياناً بيناً.
كيف؟ وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى قد منعه البيان والبلاغة، وحماه الفصاحة والبراعة، وجعله لايبلغ مبلغ الشعراء في حسن العبارة وشرف اللفظ؟ وهذا جهل عظيم، وخلاف لما عرفه العلماء، وأجمعوا عليه من أنه ﷺ كان أفصح العرب. وإذا بطل أن يكون المنع من أجل هذه المعاني، وكنا قد أعلمناه أنا ندعو إلى الشعر من أجلها، ونحذو بطلبه على طلبها، كان الاعتراض بالآية محالاً، والتعلق بها خطلاً من الرأي وانحلالاً.