وجدته يدخل في معنى بيت زياد، وذلك أنه توصل إلى نفي اللوم عنها وإبعادها عنه، بأن نفاه عن بيتها، وباعد بينه وبينه. وكان مذهبه في ذلك مذهب زياد في التوصل إلى جعل السماحة والمروءة والندى في ابن الحشرج بأن جعلها في القبة المضروبة عليه. وإنما الفرق أن هذا ينفي وذاك يثبت. وذلك فرق لا في موضع الجمع، فهو لا يمنع أن يكونا من نصاب واحد.
ومما هو في حكم المناسب لبيت زياد وأمثاله التي ذكرت، وإن كان قد اخرج في صورة أغرب وأبدع قول حسان رضي الله عنه، من الطويل:
بنى المجد يتاً فاستقرت عماده... علينا فأعيا الناس أن يتحولا
وقول البحتري، من الكامل:
أو مارأيت المجد ألقى رحله... في آل طلحة ثم لم يتحول؟
ذاك لأن مدار الأمر على أنه جعل المجد والممدوح في مكان، وجعله يكون حيث يكون.
واعلم أنه ليس كل ما جاء كناية في إثبات الصفة يصلح أن يحكم عليه بالتناسب.
معنى هذا أن جعلهم الجود والكرم والمجد يمرض بمرض الممدوح كما قال البحتري، من الطويل:
ظللنا نعود الجود من وعكك الذي... وجدت وقلنا: اعتل عضو من المجد
وإن كان يكون القصد منه إثبات الجود والمجد للممدوح، فإنه لا يصح أن يقال إنه نظير لبيت زياد كما قلنا ذاك في بيت أبي نواس:
ولكن يصير الجود حيث يصير
وغيره مما ذكرنا أنه نظير له كما أنه لا يجوز أن يجعل قوله:
وكلبك أرأف بالزائرين
مثلاً نظيراً لقوله: مهزول الفصيل، وإن كان الغرض منهما جميعاً الوصف بالقرى ضيافة، وكانا جميعاً كنايتين عن معنى واحد، لأن تعاقب الكنايات على المعنى الواحد لا يوجب تناسبها لأنه في عروض أن تتفق الأشعار الكثيرة في كونها مدحاً بالشجاعة مثلاً أو الجود، أو ما أشبه ذلك. وقد يجتمع في البيت الواحد كنايتان، المغزى منهما شيء واحد، ثم لا تكون إحداهما في حكم النظير للأخرى. مثال ذلك أنه لا يكون قوله: جبان الكلب، نظيراً لقوله: مهزول الفصيل، بل كل واحدة من هاتين الكنايتين أصل بنفسه، وجنس على حدة. وكذلك قول ابن هرمة، من المنسرح:
لا امتع العوذ بالفصال ولا... أبتاع إلا قريبة الأجل
ليس إحدى كنايتيه في حكم النظير للأخرى، وإن كان المكنى بهما عنه واحداً فاعرفه.
وليس لشعب هذا الأصل وفروعه وأمثلته وصوره وطرقه ومسالكه حد ونهاية. ومن لطيف ذلك ونادره قول أبي تمام، من الوافر:
أبين فما يزرن سوى كريم... وحسبك أن يزرن أبا سعيد
ومثله، وإن لم يبلغ مبلغه، قول الآخر، من الوافر:
متى تخلو تميم من كريم... ومسلمة بن عمرو من تميم؟
وكذلك قول بعض العرب، من المتقارب:
إذا الله لم يسق إلا الكرام... فسقى وجوه بني حنبل
وسقى ديارهم باكراً... من الغيث في الزمن الممحل
وفن منه غريب قول بعضهم في البرامكة، من الطويل:
سألت الندى والجود: ما لي أراكما... تبدلتما ذلاً بعز مؤيد؟
وما بال ركن المجد أمسى مهدماً... فقالا: أصبنا بابن يحيى محمد
فقلت: فهلا متما عند موته... فقد كنتما عبديه في كل مشهد؟
فقالا: أقمنا كي نعزى بفقده... مسافة يوم، ثم نتلوه في غد
التوكيد وعلاماته