وأما الخبر بالنفي والإثبات نحو ما هذا إلا كذا، وإن هو إلا كذا، فيكون للأمر ينكره المخاطب ويشك فيه. فإذا قلت: ما هو إلا مصيب، أو: ما هو إلا مخطىء، قلته لمن يدفع أن يكون الأمر على ما قلته. وإذا رأيت شخصاً من بعيد فقلت: ما هو إلا زيد، لم تقله إلا وصاحبك يتوهم أنه ليس بزيد، وأنه إنسان آخر، ويجد في الإنكار أن يكون زيداً. وإذا كان الأمر ظاهراً كالذي مضى لم تقله كذلك، فلا تقول للرجل ترققه على أخيه، وتنبهه للذي يجب عليه من صلة الرحم، ومن حسن التحاب: ما هو إلا أخوك. وكذلك لا يصلح في: إنما أنت والد، ما أنت إلا والد. فأما نحو: إنما مصعب شهاب فيصلح فيه أن تقول: ما مصعب إلا شهاب. لأنه ليس من المعلوم على الصحة، وإنما ادعى الشاعر فيه أنه كذلك. وإذا كان هذا هكذا جاز أن تقوله بالنفي والإثبات. إلا أنك تخرج المدح حينئذ عن أن يكون على حد المبالغة من حيث لا تكون قد ادعيت فيه أنه معلوم، وأنه بحيث لا ينكره منكر، ولا يخالف فيه مخالف.
قوله تعالى: " إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ". إنما جاء والله أعلم بإن وإلا دون إنما فلم يقل: إنما أنتم بشر مثلنا، لأنهم جعلوا الرسل كأنهم بادعائهم النبوة قد أخرجوا أنفسهم عن أن يكونوا بشراً مثلهم، وادعوا أمراً لا يجوز أن يكون لمن هو بشر.
ولما كان الأمر كذلك أخرج اللفظ مخرجه، حيث يراد إثبات أمر يدفعه المخاطب، ويدعي خلافه. ثم جاء الجواب من الرسل الذي هو قوله تعالى: " قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم " كذلك بإن وإلا دون إنما لأن من حكم من ادعى عليه خصمه الخلاف في أمر، هو لا يخالف فيه أن يعيد كلام الخصم على وجهه، ويجيء به على هيئته، ويحكيه كما هو. فإذا قلت للرجل: أنت من شأنك كيت وكيت. قال: نعم أنا من شأني كيت وكيت، ولكن لا ضير علي ولا يلزمني من أجل ذلك ما ظننت أنه يلزم. فالرسل صلوات الله عليهم كأنهم قالوا: إن ما قلتم من أنا بشر مثلكم كما قلتم: لسنا ننكر ذلك ولا نجهله، ولكن ذلك لا يمنعنا من أن يكون الله تعالى قد من علينا وأكرمنا بالرسالة. وأما قوله تعالى: " قل إنما أنا بشر مثلكم ". فجاء بإنما لأنه ابتداء كلام قد أمر النبي ﷺ بأن يبلغه إياهم، ويقوله معهم، وليس هو جواباً لكلام سابق قد قيل فيه: إن أنت إلا بشر مثلنا. فيجب أن يؤتى به على وفق ذلك الكلام، ويراعى فيه حذوه كما كان ذلك في الآية الأولى. وجملة الأمر أنك متى رأيت شيئاً هو من المعلوم الذي لا يشك فيه قد جاء بالنفي، فذلك لتقدير معنى صار به في حكم المشكوك فيه. فمن ذلك قوله. تعالى: " وما أنت بمسمع من في القبور، إن أنت إلا نذير " إنما جاء والله أعلم بالنفي والإثبات لأنه لما قال تعالى: " وما أنت بمسمع من في القبور ". وكان المعنى في ذلك أن يقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لن تستطيع أن تحول قلوبهم عما هي عليه من الإباء، ولا تملك أن توقع الإيمان في نفوسهم مع إصرارهم على كفرهم، واستمرارهم على جهلهم، وصدهم بأسماعهم عما تقوله لهم وتتلوه عليهم. كان اللائق بهذا أن يجعل حال النبي ﷺ حال من قد ظن أنه يملك ذلك ومن لا يعلم يقيناً أنه ليس في وسعه شيء أكثر من أن ينذر ويحذر. فأخرج اللفظ مخرجه إذ كان الخطاب مع من يشك فقيل: " إن أنت إلا نذيز " ويبين ذلك أنك تقول للرجل يطيل مناظرة الجاهل ومقاولته: إنك لا تستطيع أن تسمع الميت، وأن تفهم الجماد، وأن تحول الأعمى بصيراً، وليس بيدك إلا أن تبين وتحتج ولست تملك أكثر من ذلك، لا تقول هاهنا. فإنما الذي بيدك أن تبين وتحتج. ذلك لأنك لم تقل له: إنك لا تستطيع أن تسمع الميت حتى جعلته بمثابة من يظن أنه يملك وراء الاحتجاج والبيان شيئاً. وهذ واضح فاعرفه. ومثل هذا في أن الذي تقدم من الكلام اقتضى أن يكون اللفظ كالذي تراه من كونه بإن وإلا قوله تعالى: " قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ".
بيان آخر في إنما


الصفحة التالية
Icon