لا يؤاخذكم الله بما يجري على ألسنتكم من ذكر اسم الله من غير قصد الحلف، ولكن يؤاخذكم بما قصدتم إليه وعقدتم القلب عليه من الأيمان، والله واسع المغفرة، حليم لا يعاجل عباده بالعقوبة.
للذين يحلفون منكم على اعتزال نسائهم، ويقسمون على ألاّ يقربوهن للإضرار بهن، على نسوة هؤلاء الحالفين انتظار مدة أقصاها أربعة أشهر، فإن رجعوا إلى عشرة أزواجهن بالمعروف كما أمر الله، فالله يغفر لهم ما صدر منهم من إساءة، وإن صمّموا على الإيلاء من الأزواج، فقد وقعت الفرقة والطلاق بمقضي تلك المدة، والله سميع لأقوالكم، عليم بنواياكم وأعمالكم.
سبب النزول
روي أنها نزلت في ( عبد الله بن رواحة ) كان بينه وبين ختنه ( بشير بن النعمان ) شيء فحلف عبد الله لا يدخل عليه، ولا يكلمه، ولا يصلح بينه وبين خصم له، فكان إذا قيل له فيه يقول : قد حلفت بالله أن لا أفعل، فلا يحل لي أن لا أبر بيميني، فأنزل الله ﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ﴾.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : ذمّ الله تعالى من أكثر الحلف بقوله :﴿ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ﴾ [ القلم : ١٠ ] وكان العرب يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف كما قال كثير :

قليلُ الألايا حافظٌ ليمينه وإن سبقتْ منه الأليّةُ برّت
قال الإمام الفخر :« والحكمة في الأمر بتقليل الإيمان، أنّ من حلف في كل قليل وكثير بالله، انطلق لسانه بذلك ولا يبقى لليمين في قلبه وقع، فلا يُؤمنُ إقدامه على اليمين الكاذبة، ومن كمال التعظيم لله أن يكون ذكر الله أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية ».
اللطيفة الثانية : ذكر الله العلة في هذا النهي بقوله :﴿ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ ﴾ أي إرادة أن تبروا وتتقوا، فإن قيل : كيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى؟
فالجواب : أن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تعالى أجل وأعظم من أن يستشهد باسمه العظيم في مطالب الدنيا، والخسائس من أمور الحياة، فلا شك أن هذا من أعظم أبواب البر والتقوى.
اللطيفة الثالثة : قال الإمام الجصاص :« قد ذكر الله تعالى اللغو في مواضع من كتابه العزيز، فكان المراد به معاني مختلفة على حسب الأحوال التي خرج عليها الكلام فقال تعالى :﴿ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً ﴾ [ الغاشية : ١١ ] يعني كلمة فاحشة قبيحة وقال :﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً ﴾ [ الواقعة : ٢٥ ] على هذا المعنى، وقال :﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ ﴾ [ القصص : ٥٥ ] يعني الكفر والكلام القبيح، وقال ﴿ والغوا فِيهِ ﴾ [ فصلت : ٢٦ ] يعني الكلام الذي لا يفيد شيئاً، وقال :﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ﴾ [ الفرقان : ٧٢ ] يعني الباطل، ويقال : لغا في كلامه يلغو إذا أتى بكلام لا فائدة فيه ».


الصفحة التالية
Icon