قال الجصاص في تفسيره « أحكام القرآن » : وقد حوت الآية الكريمة الدالة على معنيين :
أحدهما : أن الأم أحقّ برضاع ولدها في الحولين، وأنه ليس للأب أن يسترضع له غيرها إذا رضيت بأن ترضعه.
والثاني : أن الذي يلزم الأب في نفقة الرضاع إنما هو سنتان.
وفي الآية دلالة على أن الأب لا يشارك في نفقة الرضاع لأن الله أوجب هذه النفقة على الأب للأم، وهما جميعاً وارثان، ثم جعل الأب أولى بإلزام ذلك من الأم مع اشتراكهما في الميراث، فصار ذلك أصلاً في اختصاص الأب بإلزام النفقة دون غيره، كذلك حكمه في سائر ما يلزمه من نفقة الأولاد الصغار، والكبار الزمني، يختص هو بإيجابه عليه دون مشاركة غيره فيه لدلالة الآية عليه «.
الحكم الخامس : ما المراد من قوله تعالى :﴿ وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك ﴾ ؟
واختلف المفسّرون في المراد من لفظ ﴿ الوارث ﴾ في الآية الكريمة على أقوال :
أ - قال بعضهم : المراد وارث المولود أي وارث الصبي لو مات، وهو قول عطاء ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقد اختلف أصحاب هذا القول فقال بعضهم وارثه من الرجال خاصة هو الذي تلزمه النفقة، وقال آخرون : وارثه من الرجال أو النساء وهو قول ( أحمد ) وإسحاق، وقال آخرون : وارثه كل ذي رحم محرم من قرابة المولود، وهو قول ( أبي حنيفة ) وصاحبيه.
ب - وقال بعضهم : المراد بالوارث هو وارث الأب وهو مروي عن الحسن، والسُدّي.
ج - وقال بعضهم : المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر وهو قول سفيان الثوري.
د - وقال آخرون : المراد بالوارث الصبي نفسه فتجب النفقة عليه في ماله إن كان له مال.
وقد رجح الطبري الرأي الأخير واختاره من بين بقية الأقوال والله أعلم بالصواب.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١ - على الأمهات إرضاع الأبناء، لأن لبن الأم أصلح وشفقتها على ولدها أكمل.
٢ - نسب الأولاد للآباء، والآباءُ أحق بالتعهد والحماية والإنفاق.
٣ - النفقة على قدر طاقة الوالد عسراً ويسراً ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
٤ - نفقة الصغير تجب على وارثه عند فقد أبيه لأن الغُرْم بالغنم.
٥ - فطام الطفل قبل عامين ينبغي أن يكون بمشورة ورضى الأبوين.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
حث الله تعالى الأمهات على إرضاع الأبناء، وحدّد مدة الرضاع بعامين كاملين، لأن هذه المدة يستغني بها الطفل عن ثدي أمه، ويبدأ بالتغذي بعدها عن طريق تناول الطعام والشراب.. وليس هناك لبن يعادل لبن الأم، فهو أفضل غذاء باتفاق الأطباء فالولد قد تكوّن من دمها في أحشائها، فلما برز إلى الوجود تحوّل الدم إلى لبنٍ يتغذى منه، فهو اللبن الذي يلائمه ويناسبه لأنه قد انفصل من الأم، وقد قضت الحكمة الإلهية أن تكون حالة لبن الأم في التغذية ملائمة لحال الطفل بحسب درجات سنه، فإذا أرضعته مرضع لضرورة وجب التدقيق في صحتها، ومعرفة أخلاقها وطبائعها، لأن لبنها يؤثر في جسم الطفل وأخلاقه وآدابه، إذ هو يخرج من دمها ويمتصه الولد، فيكون دماً له ينموا به اللحم، ويُنشز العظم، فيؤثر فيه جسمياً وخلقياً، وقد لوحظ أن تأثير انفعالاتها النفسية والعقلية أشد من تأثير صفاتها البدنية فيه، فما بالك بآثار عقلها وشعورها وملكاتها النفسية؟!
والأم حين ترضع ولدها لا ترضعه اللبن فحسب، بل ترضعه العطف والرحمة والحنان، فينشأ مجبولاً على الرحمة، محباً للخير، وعلى العكس حال أولئك الذين يحرمون عطف وحنان أمهاتهم، يكونون معقّدين، وتفتعل في نفوسهم نوازع القسوة والشر والانتقام، وقد فطن علماء التربية والتهذيب في الأمم الراقية إلى هذا الأمر، حتى كان نساء القياصرة يرضعن أولادهن بأنفسهن، ولا يرضين تسليمهم إلى المراضع.