قال القرطبي :« أجاب علماؤنا عن الحديث بأن قالوا : لعلّ النبي ﷺ فعل ذلك لعذر لا سيما وكان هذا الفعل منه ﷺ في السفر وهو مظِنّة الإعذار، وموضع الاستعجال والاختصار، ثم هو لم يكتف بالناصية حتى مسح على العمامة، فلو لم يكن مسح جميع الرأس واجباً لما مسح على العمامة ».
أقول : الباء في اللغة العربية موضوعة للتبعيض، وكونها زائدة خلاف الأصل، ومتى أمكن استعمالها على حقيقة ما وضعت له وجب استعمالها على ذلك النحو، فالفرض يجزئ بمسح البعض، والسنّة مسح الكل، فما ذهب إليه الشافعية والحنفية أظهر، وما ذهب إليه المالكية والحنابلة أحوط والله أعلم.
الحكم الخامس : ما هي الجنابة وماذا يحرم بها؟
الجنابة معنى شرعي يستلزم اجتناب الصلاة، وقراءة القرآن، ومسّ المصحف، ودخول المسجد إلى أن يغتسل الجنب لقوله تعالى :﴿ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا ﴾، وقد بيّن النبي ﷺ لحصول الجنابة سببين :
الأول : نزول المني للحديث الشريف « الماء من الماء » أي يجب الاغتسال بالماء من أجل الماء أي المني.
والثاني : التقاء الختانين لقوله عليه السلام :« إذا التقى الختانان وجب الغسل ».
وكما يجب الغسل للجنابة يجب عند انقطاع الحيض والنفاس لقوله تعالى في الحيض :﴿ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ ﴾ [ البقرة : ٢٢٢ ] ولحديث فاطمة بنت أبي حبيش أنه ﷺ قال لها :« إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصليّ » والإجماع على أن النفاس كالحيض.
الحكم السادس : حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل.
اختلف الفقهاء في ( المضمضة ) و ( الاستنشاق ) في الغسل، فقال المالكية والشافعية لا يجبان فيه، وقال الحنفية والحنابلة يجبان.
حجة المالكية والشافعية ما روي أن قوماً كانوا يتحدثون في مجلس رسول الله ﷺ في أمر الغسل، وكلٌ يبيّن ما يعمل فقال عليه السلام « أمّا أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت ».
وحجة الحنفية والحنابلة أن الأمر بالتطهر يعم جميع أجزاء البدن الظاهرة والباطنة، التي ميكن غسلها وهي ( الفم ) و ( الأنف ) فكانت المضمضة والاستنشاق من الواجبات لقوله تعالى :﴿ فاطهروا ﴾.
وأجابوا عما تمسك به ( المالكية والشافعية ) بأن الغرض من الحديث بيان أنه لا يجب الوضوء بعد الغسل كما فهم ذلك كثير من الصحابة، فبيّن عليه السلام أن الواجب الغسل فقط، وأن الطهارة الصغرى تدخل في الطهارة الكبرى.
الحكم السابع : حكم المريض والمسافر إذا وجد الماء.
ظاهر الآية الكريمة يدل على جواز التيمم للمريض مطلقاً، ولكنّه مقيّد بمن يضره الماء كما روي عن ابن عباس وجماعة من التابعين من أن المراد بالمريض المجدور ومن يضره الماء، ولذلك رأى الفقهاء أن المرض أنواع :
الأول : ما يؤدي استعمال الماء فيه إلى التلف في النفس أو العضو، بغلبة الظن أو بإخبار الطبيب المسلم الحاذق، وفي هذه الحالة يجوز التيمم باتفاق.