وقال بعضهم : إنه يأتي بالذي هو خير وليس عليه كفارة ليمينه، واستدلوا بظاهر هذه الآية ﴿ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ ﴾ ووجه استدلالهم أن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة.
واستدلوا كذلك بقول الرسول ﷺ :« من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وذلك كفارته ».
أدلة الجمهور :
استدل الجمهور على وجوب الكفارة على الحانث بما يلي :
أ- قوله تعالى :﴿ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ﴾ [ المائدة : ٨٩ ] الآية.
ب- وقوله تعالى :﴿ ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ﴾ [ المائدة : ٨٩ ] وذلك عام في الحانث في الخير وغيره.
ح - وقوله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أن يضربها ﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ ﴾ [ ص : ٤٤ ] والحنث كان خيراً من تركه، وأمره الله بضرب لا يبلغ منها، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها، بل كان يحنث بلا كفارة.
د- وبحديث « فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه » وقد تقدم.
قال الجصاص :« أم استدلالهم بالآية فليس فيما ذكروا دلالة على سقوط الكفارة، لأن الله قد بيّن إيجاب الكفارة في قوله :﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ﴾ وقوله :﴿ ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ ﴾ [ المائدة : ٨٩ ] وذلك عام فيمن حنث فيما هو خير وفي غيره، وأما استدلالهم بالحديث » فليأت الذي هو خير وذلك كفارته « فإن معناه تكفير الذنب. لا الكفارة المذكورة في الكتاب، وذلك لأنه منهي عن أن يحلف على ترك طاعة الله. فأمر النبي ﷺ بالحنث والتوبة، وأخبر أن ذلك يكفّر ذنبه الذي اقترفه بالحلف ».
وقال ابن العربي : عجبت لقوم يتكلفون فيتكلمون بما لا يعلمون، هذا أبو بكر حلف ألا ينفق على مسطح، ثم رجَّع إليه نفقته، فمن للمتكلف لنا تكلّف بأن أبا بكر لم يكفّر حتى يتكلم بهذا الهزء.
الترجيح : ومن استعراض الأدلة يتبيّن لنا قوة رأي الجمهور في وجوب الكفارة على الحانث مطلقاً وضعف رأي غيرهم والله أعلم.
الحكم الرابع : هل تنعقد اليمين في الامتناع عن فعل الخير؟
تنعقد اليمين إذا حلف الإنسان أن يمتنع عن فعل الخير وتجب عليه الكفارة عند الجمهور كما أسلفنا، ولكنّ هذا النوع من الحلف غير جائز لما فيه من ترك الطاعة لله تعالى في قوله :﴿ وافعلوا الخير ﴾ [ الحج : ٧٧ ]. قال الفخر الرازي :« في هذه الآية دلالة على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة، وإنما تجوز إذا جعلت داعية للخير، لا صارفة عنه ».
وقال الألوسي :« وظاهر هذا حمل النهي على التحريم، وقيل : هو للكراهة، وقيل : إن الحلف على ترك الطاعة قد يكون حراماً، وقد يكون مكروهاً، فالنهي هنا لطلب الترك مطلقاً ».


الصفحة التالية
Icon