والخطاب وإن كان في صورته موجهاً للنبي عليه السلام، لكنّه في الحقيقة تعليم للأمة، وإرشاد لها؛ لتسلك طريق التقوى، وتعمل تهدي القرآن.
وقد استحدث أهل الجاهلية بدعاً غريبة، ومنكراتٍ كثيرة، زعموا أنّها من الدين، فنزل القرآن الكريم مبطلاً لهذه البدع، مغيّراً تلك الخرافات والأباطيل، بالحق الساطع، والبرهان القاطع، مقرراً الأمر على أساس المنطق السليم.
يقول الله تعالى ما معناه :« يا أيها النبي تحل بالتقوى، وتمسّك بطاعة الله، ولا تطع أهل الكفر والنفاق فيما يدعونك إليه من اللين والتساهل وعدم التعرض لآلهتهم بسوء، فإنّ الله عالم بأحوال العباد، لا تخفى عليه خافية، واتّبْع ما يوحيه إليك ربك، من الشرع القويم، والدين الحكيم، ولا تخش وعيد أحدٍ من المشركين، فإنّ الله معك فتوكل عليه، والجأ في جميع أمورك إليه، فهو الحافظ والناصر. ثم ردّ تعالى مزاعم أهل الجاهلية، وما هم عليه من ضلالٍ وعنادٍ، فبيّن أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه، فكذلك لا يمكن أن تصبح الزوجة المظاهر منها أماً، ولا الولد المتبنّى ابناً، لأن الأم الحقيقية هي التي ولدته ﴿ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ ﴾ [ المجادلة : ٢ ] والابن الحقيقي هو الذي جاء من صلب ذلك الرجل فلا يمكن لإنسان أن يكون له أبوان، فكيف يزعمون أنّ هؤلاء الزوجات أمهات!! وكيف يجعلون أبناء الآخرين أبناءً لهم، مع أنهم ليسوا من أصلابهم!!
ذلك هو محض الكذب والافتراء على الله، والله يقول الحق ويهدي إلى أقوم طريق.
ثم أمر تعالى بنسبة هؤلاء إلى آبائهم، لأنه أعدل وأقسط فقال : فإن لم تعرفوا - أيها المؤمنون - آباءهم، فهم إخوانكم في الدين، وأولياؤكم فيه، فليقل أحدكم : يا أخي ويا مولاي يقصد أخوّة الدين وولايته، وليس عليكم ذنب فيما أخطأتم به ولكنّ الذنب والإثم فيما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً، يغفر لعباده زلاتهم، ويتجاوز عن سيئاتهم.
سبب النزول
روى المفسّرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمة أسباباً عديدة نذكر أصحها وأجمعها :
أولاً : رُوي أنّ أبا سفيان بن حرب، وعكرمه بن أبي جهل، وأبا الأعور السّلمي، قدموا على رسول الله ﷺ في الموادعة التي كانت بينهم، فنزلوا على عبد الله بن أبيّ، ومُعتّب بن قُشَيْر، والجدّ بن قيس، فتكلموا فيما بينهم، وأتو رسول الله ﷺ فدعوه إلى أمرهم، وعرضوا عليه أشياء، وطلبوا منه أن يرفض ذكر ( اللاَّت والعُزى ) بسوء. وأن يقول : إنّ لها شفاعة، فكره ﷺ ذلك، ونزلت هذه الآية :﴿ ياأيها النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين ﴾.
ثانياً : وروي أنّ رجلاً من قريش يُدعى ( جميل بن مَعْمَر الفِهْري ) كان لبيباً، حافظاً لما سمع، فقالت قريش : ما حفظ هذه الأشياء إلاّ وله قلبان في جوفه، وكان يقول :» إن لي قلبين أعقل بكلّ واحدٍ منهما أفضل من عقل محمد «، فلمّا كان يوم بدر، وهُزِم المشركون - وفيهم يومئذٍ جميل بن مَعْمر - تلقَّاه ( أبو سفيان ) وهو معلّق إحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فقال له : ما حال الناس؟ فقال : انهزموا، قال : فما بال إحدى نعليك في يدك، والأخرى في رجلك؟
قال : ما شعَرْتُ إلاّ أنهما في رجليّ!!
فعرفوا يومئذٍ أنه لو كان له قلبان لما نسيَ نعله في يده فأنزل الله تعالى { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.