الحكم الثاني : هل يجب استقبال عين الكعبة أم يكفي استقبال جهتها؟
استقبال القبلة فرض من فروض الصلاة، لا تصح الصلاة بدونه، إلا ما جاء في صلاة الخوف والفزع، وفي صلاة النافلة على الدابة أو السفينة، فله أن يتوجه حيث توجهت به دابته، لما رواه أحمد ومسلم والترمذي : أن النبي ﷺ كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به، وفيه نزلت ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله ﴾ [ البقرة : ١١٥ ].
وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، إنما الخلاف هل الواجب استقبال عين الكعبة أم استقبال الجهة؟
فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الواجب استقبال عين الكعبة.
وذهب الحنفية والمالكية إلى أنّ الواجب استقبال جهة الكعبة، هذا إذا لم يكن المصلي مشاهداً لها، أمّا إذا كان مشاهداً لها فقد أجمعوا أنه لا يجزيه إلا إصابة عين الكعبة، والفريق الأول يقولون : لا بدّ للمشاهد من إصابة العين، والغائب لا بد له من قصد الإصابة مع التوجه إلى الجهة، والفريق الثاني يقولون : يكفي للغائب التوجه إلى جهة الكعبة.
أدلة الشافعية والحنابلة :
استدل الشافعية والحنابلة على مذهبهم بالكتاب، والسنة، والقياس.
أ - أما الكتاب، فهو ظاهر هذه الآية ﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾ ووجه الاستدلال : أن المراد من الشطر الجهة المحاذية للمصلي والواقعة في سمته، فثبت أن استقبال عين الكعبة واجب.
وأما السنة : فما روي في « الصحيحين » عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قال :« لمّا دخل النبي ﷺ البيت دعا في نواحيه كلّها، ولم يصلّ حتى خرج منه، فلمّا خرج صلى ركعتين من قِبَل الكعبة، وقال : هذه القبلة ».
قالوا : فهذه الكلمة تفيد الحصر، فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة.
ج - وأما القياس : فهو أنّ مبالغة الرسول ﷺ في تعظيم الكعبة، أمر بلغ مبلغ التواتر، والصلاة من أعظم شعائر الدين، وتوقيفُ صحتها على استقبال عين الكعبة يوجب مزيد الشرف، فوجب أن يكون مشروعاً.
وقالوا أيضاً : كونُ الكعبة قبلة أمر مقطوع به، وكون غيرها قبلة أمر مشكوك فيه، ورعايةُ الاحتياط في الصلاة أمر واجب، فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال عين الكعبة.
أدلة المالكية والحنفية :
واستدل المالكية والحنفية على مذهبهم بالكتاب، والسنة وعمل الصحابة، والمعقول.
أ - أما الكتاب : فظاهر قوله تعالى :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام ﴾ ولم يقل : شطر الكعبة، فإنّ من استقبل الجانب الذي فيه المسجد الحرام، فقد أتى بما أمر به سواء أصابَ عين الكعبة أم لا.
ب - وأما السنة : فقوله ﷺ :« ما بين المشرق والمغرب قِبْلةٌ ».
وحديث :« البيتُ قبلةٌ لأهل المسجد والمسجدُ قبلةٌ لأهل الحرم، والحرامُ قبلةٌ لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي ».