قال العلامة القرطبي رحمه الله :« لا يجوز أن يُنسب إلى إحدٍ من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه، وأرادوا الله تعالىّ، وهم كلّهم بنا أئمة، وقد تعبّدنا بالكف عمّا شجر بينهم، وألاّ نذكرهم إلاّ بأحسن الذكر، لحرمة الصحبة، ولنهي النبي ﷺ عن سبّهم، وأنّ غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم ».
هذا مع قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي ﷺ أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض، فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصياناً لم يكن بالقتل فيه شهيداً، لأن الشهادة لا تكون إلا بالقتل في الطاعة.
وممّا يدل على ذلك ما قد صحّ بأن قاتل الزبير في النار، وقوله عليه السلام :« بشّر قاتل ابن صفية بالنار »، وإذا كان كذلك فقد ثبت أن ( طلحة ) و ( الزبير ) غير عاصيين، ولا آثمين بالقتال، وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال :﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ البقرة : ١٣٤ ].
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : وجوب التثبت من الأخبار وعدم الوثوق بخبر الفاسق الخارج عن طاعة الله.
ثانياً : ضرورة التريث قبل الحكم على الأشخاص لمجرد سماع الأنباء خشية الظلم والعدوان عليهم.
ثالثاً : الرسول ﷺ هو المرجع للمؤمنين، فلا يجوز لأحدٍ من أهل الإيمان أن يقطع بأمرٍ دونه.
رابعاً : وجوب الإصلاح بين طوائف المؤمنين عند حصول النزاع خشية تصدُّعِ الصف، وتفرُّقِ الكلمة.
خامساً : إذا بغت إحدى الطائفتين على الأخرى ولم يمكن الاصلاح وجبَ قبر الفتنة بحدّ السيف.
سادساً : المؤمنون إخوة جمعتهم رابطة ( العقيدة والإيمان ) وهذه الرابطة أقوى من رابطة النسب والدم.
سابعاً : يجب على المؤمنين مقاومة أهل البغي إبقاءً لوحدة الأمة الإسلامية ودفعاً للظلم عن المستضعفين.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
يدعو الإسلام إلى التثبت في الخبر، وأخذ الحيطة والحذر، في كل أمرٍ من أمور المؤمنين، ليجتنبوا المزالق التي يدبّرها لهم أعداؤهم، ويكونوا على بيّنةٍ من أمرهم، فكم من فتنة حصلت بسبب خبر كاذب، نقله فاسق فاجر؟ وكم من دماء أريقت بسبب فتنةٍ هوجاء، أشعلَ نارَها أناسٌ ماكرون؟ لا يريدون للأمة الخير، ولا يضمرون للمسلمين إلاّ كل شرّ، وبلاءٍ، وفتنة، ليفسدوا عليهم وحدتهم، ويكدّروا عليهم صفاءهم وسرورهم.
لذلك أمر الإسلام بمبدأ كريم فاضل ( مبدأ التمحيص ) والتثبت من كل خبر، وخاصة خبر الفاسق، الذي لا يقيم حرمةً للدين، ولا يبالي بما يحدث من جراء كذبه وبهتانه، من أضرار فادحة، ونتائج وخيمة، تشلّ حركة المجتمع، وقد تفضي إلى فجيعة عظيمة تودي بحَياة أناسٍ بريئين، كما كان سيحدث في قصة ( الوليد بن عقبة ) لولا أنّ الله تعالى أطلع رسوله على جليّة الأمر، بواسطة الوحي المنزل، فكان في ذلك صيانة الدماء البريئة، وحفظ وحدة المسلمين. كما أمر الإسلام بمقاومة الظلم والطغيان، أيّاً كان مصدره، فدعا إلى الإصلاح بين الطوائف المتنازعة، والفئات المتخاصمة، فإن لم ينفع الصلح، ولم تثمر دعوته، كان السيف هو الحكم الفاصل تقاتل به الفئة الباغية، حتى ترجع إلى أمر الله، وتفيء إلى رشدها.
وهذه الخطة الحكيمة التي انتهجها الإسلام قاعدة تشريعية وقائية، لصيانة المجتمع المسلم من الخصام، والتفكك، والاندفاع وراء الأهواء الطائشة، التي لا تجني منها الأمة إلاّ كل شر، وبلاء.


الصفحة التالية
Icon