المعنى الإجمالي
يقول جلّ ثناؤه ما معناه :﴿ فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم ﴾ لا أقسم بهذه الأفلاك، لا أقسم بمواضعها ومنازلها، بمداراتها التي تدور فيها، فإنّ الأمر أوضح وأجلى من أن يحتاج إلى قسم، والقسم بها - لو علمتم - شيء عظيم، لما فيه من الدلائل الباهرة على قدرة خالقها جلّ وعلا، ومع ذلك أقسم بأنّ هذا القرآن كتاب كريم، ليس بسحر ولا كهانة، وليس بمفترى، بل هو تنزيل الحكيم العليم، في كتابٍ مصونٍ عند الله تعالى، محفوظٍ عن الباطل، محفوظ عن التبديل والتغيير.
وهذا الكتاب العزيز لم تتنزّل به الشياطين، فالشياطين لا تمسّ هذا الكتاب المكنون في علم الله وحفظه، وإنما تنزّلت به الملائكة الأطهار، ولا ينبغي أن يمسّه إلاّ من كان مثلهم طاهراً، لأنه كلام ربّ العزّة جلّ وعلا، ومن تعظيم كلام الله ألاّ يمسّه إلا من كان طاهراً مطهّراً.
أفبهذا القرآن - أيها الناس - تكذّبون وتكفرون؟ وتجعلون شكر النعم أنكم تنكرون فضل الله المنعم المتفضّل عليكم؟ فماذا أنتم فاعلون حين تبلغ الروح الحلقوم، وتقفون في مفرق الطريق المجهول؟
هل تملكون العودة إلى الدنيا أو دفع الموت عنكم؟ أو تستطيعون أن تردّوا إلى أحد روحه بعد أن تنفصل عن جسده؟
فلو كنتم غير محاسبين، أو كان الأمر كما تقولون : لا حساب ولا جزاء، ولا بعث ولا نشوز، فأنتم حينئذٍ طلقاء غير مدينين ولا محاسبين، فدونكم إذن فلترجعوها - وقد بلغت الحلقوم - لتردّوها عما هي ذاهبة إليه من حساب وجزاء، وأنتم حولها تنظرون، وملائكتنا أقرب إليها منكم ولكن لا تبصرون، وهي ماضية إلى ( الدينونة الكبرى ) وأنتم ساكنون عاجزون، وهناك تلقون الجزاء الأوفى من أحكم الحاكمين.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : السرّ في القسم بمواقع النجوم هو الإشارة إلى عظيم قدرة الله، وكمل حكمته، وبديع صنعه، بما لا يحيط به نطاق البيان، فإنّ عظمة الصنعة تدل على عظمة الصانع فالسماء بما حوته من شموس وأقمار، أثر من آثار قدرة الله، التي تدل على وجود الخالق، المبدع، الحكيم، وهي آية على الوحدانية كما قال أبو العتاهية :
وفي كلّ شيءٍ له آيةٌ... تدل على أنّه واحدُ
اللطيفة الثانية : قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴾ جاءت هذه الجملة الاعتراضية ( لو تعلمون ) بين الصفة والموصوف، وفائدة هذا الاعتراض هي التهويل من شأن القسم، والتنبيه إلى عظمة الكون كما قال تعالى :﴿ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ غافر : ٥٧ ].
والمقسم عليه هو ( القرآن العظيم ) وأصل الكلام :( وإنه لقسم عظيم، إنه لقرآن كريم ) فاعترض بين الصفة والموصوف لهذا السرّ الدقيق.
اللطيفة الثالثة : فإن قيل : أين جواب ( لَوْ ) في الجملة الاعتراضية؟
نقول : لا جواب لها لأنه أريد به نفي علمهم وكأنه قال : وإنه لقسم ولكن لا تعلمون، أو إنه محذوف ثقة بظهوره أي لو تعلمون حق العلم لعظّمتموه، أو لعملتم بموجبه، والفعل المضارع ( تعلمون ) ليس له مفعول على حدّ قولهم : فلانٌ يعطي ويمنع، وهو أبلغ وأدخل في الحسن ممّا لو كان له مفعول فتدبره.


الصفحة التالية
Icon