﴿ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] هؤلاء الكاتمون لأوصاف الرسول، المتلاعبون بأحكام الدين، المحرفون للتوراة والإنجيل، يستحقون الطرد والإبعاد من رحمة الله، ويستوجبون اللعنة من الملائكة والناس أجمعين، إلاّ من تاب عن كتمانه، وأصلح أمره بالإيمان بمحمد رسول الله ﷺ، وبيّن ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه، فلم يكتمه ولم يُخفه، فهؤلاء يتوب الله عليهم، ويفيض عليهم مغفرته ورحمته، وهو جل ثناؤه كثير التوبة على العباد، يتغمدهم برحمته، ويشملهم بعفوه، ويصفح عمّا فرط منهم من السيئات.
سبب النزول
١ - نزلت هذه الآية الكريمة من أهل الكتاب حين سئلوا عمّا جاء في كتبهم من أمر النبي ﷺ فكتموه، ولم يخبروا عنه حسداً وبغضاً.. روي السيوطي في « الدر المنثور » عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ ( معاذ بن جبل ) وبعض الصحابة سألوا نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه، وأبوا أن يخبرونهم، فأنزل الله فيهم ﴿ إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى ﴾.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قوله تعالى ﴿ فِي الكتاب ﴾ المراد بالكتاب الكتب التي أنزلها الله لهداية البشرية، ف ( أل ) تكون ( للجنس ) مثلها في قوله تعالى :﴿ والعصر* إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْر ﴾ [ العصر : ١-٢ ] وقيل : المراد بالكتاب التوراةُ والإنجيل، فتكون ( أل ) للعهد الذهني.
اللطيفة الثانية : عبّر باسم الإشارة البعيد ﴿ أولئك يَلعَنُهُمُ الله ﴾ تنبيهاً على قبح عملهم وغاية بعده في الإجرام، والإفساد، وأبرز الخبر في صورة جملتين توكيداً وتعظيماً لخطورته، وأتى بالفعل المضارع المفيد للتجدد لتجدد مقتضيه، وأبرز اسم الجلالة ﴿ يَلعَنُهُمُ الله ﴾ على سبيل الإلتفات لتربية المهابة، وإدخال الروعة، إذ لو جرى على نسق الكلام المتقدم لقال ( أولئك نلعنهم ).
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى :﴿ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون ﴾ ضربٌ من البديع يسمى ( الجناس المغاير ) وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً، والأخرى فعلاً كما في هذه الآية.
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ جاء اللفظان بصيغة المبالغة، لأن ( فعّال ) و ( فعيل ) من صيغ المبالغة كما قال ابن مالك :
فعّال أو مفعال أو فعول | في كثرةٍ عن فاعل بديل |
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل هذه الآية خاصة بأحبار اليهود والنصارى؟
الآية الكريمة نزلت في أهل الكتاب من أحبار اليهود، وعلماء النصارى، الذين كتموا صفات النبي ﷺ كما دلّ على ذلك سبب النزول، ولكنها تشمل كل كاتم لآيات الله، مخفٍ لأحكام الشريعة، لأن العبرة - كما يقول علماء الأصول - بعموم اللفظ لا ( بخصوص السبب )، والآيات وردت عامة بصيغة اسم الموصول ﴿ إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ ﴾ لذلك تعم.
قال أبو حيان :« والأظهر عموم الآية في الكاتمين، وفي الناس، وفي الكتاب، وإن نزلت على سبب خاص، فهي تتناول كلّ من كتم علماً من دين الله، يُحتاج إلى بثه ونشره.