اللطيفة الثالثة : بيّن المولى جل ثناؤه أن الصوم يورث التقوى ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ وهذا تقليل لفريضة الصيام ببيان فائدته الكبرى، وحكمته العليا، وهو أنه يعد نفس الصائم لتقوى الله بترك شهواته الطبيعية المباحة، امتثالاً لأمره واحتساباً للأجر عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة التقوى بترك الشهوات المحرمة، فالصوم يكسر شهوة البطن والفرج، وإنما يسعى الناس لهذين، كما قيل في المثل السائر :( المرء يسعى لغاريه : بطنه، وفرجه ).
اللطيفة الرابعة : قال القفال رحمه الله :« انظروا إلى عجيب ما نبّه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف، فقد نبّه إلى ما يلي :
أولاً : أنّ لهذه الأمة في شريعة الصيام أسوة بالأمم المتقدمة.
ثانياً : أن الصوم سبب لحصول التقوى، فلو لم يُفرض لفات هذا المقصود الشريف.
ثالثاً : أنه مختص بأيام معدودات، فإنه لو جعله أبداً لحصلت المشقة العظيمة.
رابعاً : أنه خصّه من بين الشهور بالشهر الذي أًنزل فيه القرآن، لكونه أشرف الشهور.
خامساً : إزالة المشقة في إلزامه - فقد أباح تأخيره لمن يشق عله من المسافرين والمرضى، فهو سبحانه قد راعى في فريضة الصيام هذه الوجوه من الرحمة، فله الحمد على نعمه التي لا تحصى.
اللطيفة الخامسة : أفاد قوله تعالى :﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ﴾ أن الشيخ الكبير والمرأة العجوز يجوز لهما الإفطار مع الفدية، والعرب تقول : أطاق الشيء إذا كانت قدرته في نهاية الضعف، بحيث يتحمل به مشقة عظيمة، وهو مشتق من الطوق وعليه قول الراغب : الطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة، وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] أي ما يصعب علينا مزاولته.
والطاقة : اسم لمن كان قادراً على الشيء مع الشدة والمشقة، والوُسْعُ : اسم لمن كان قادراً على الشيء على وجه السهولة، فتنبه له فإنه دقيق.
اللطيفة السادسة : قوله تعالى :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ المراد شهود الوقت لا شهود رؤية الهلال، إذ قد لا يراه إلا واحد أو اثنان ويجب صيامه على جميع المسلمين، و ( شهد ) بمعنى حضر، وفيه إضمارٌ أي من شهد منكم الشهر مقيماً غير مسافر ولا مريض فليصمه، ووضعُ الظاهر موضع الضمير للتعظيم والمبالغة في البيان، أفاده أبو السعود.
اللطيفة السابعة : قوله تعالى :﴿ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر ﴾ هذه الآية فيها من المحسّنات البديعية ما يسمى ( طباق السلب ) وهي أصل في الدين ومنها أخذ الفقهاء القاعدة الأصولية ( المشقّة تجلب التيسير ) فالله تبارك وتعالى لا يريد بتشريعه إعنات الناس، وإنما يريد اليسر بهم وخيرهم ومنفعتهم.
اللطيفة الثامنة : قال العلامة الزمخشري قوله تعالى :﴿ وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي شرع ذلك يعني جملة ما ذكر، من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأم المريض والمسافر بمراعاة عدة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطر، فقوله :﴿ وَلِتُكْمِلُواْ ﴾ علة الأمر بمراعاة العدة، ( ولتكبّروا ) علة ما عُلم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ علة الترخيص والتيسير، وهذا نوع من اللّف والنشر، لطيف المسلك، لا يكاد يهتدي إلى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان.


الصفحة التالية
Icon