وأما ما استدل به أهل الظاهر من قوله عليه السلام « ليس من البر الصيام في السفر » فهذا واردٌ على سبب خاص وهو أن النبي ﷺ رأى رجلاً يظلّل والزحام عليه شديد فسأل عنه فقالوا : صائم أجهده العطش فذكر الحديث.
قال ابن العربي في تفسيره « أحكام القرآن » :« وقد عُزي إلى قوم : إن سافر في رمضان قضاه، صامه أو أفطره، وهذا لا يقول به إلا الضعاء الأعاجم، فإن جزالة القول، وقوة الفصاحة، تقتضي تقدير ( فأفطر ) وقد ثبت عن النبي ﷺ الصوم في السفر قولاً وفعلاً، وقد بينا ذلك في شرح الصحيح وغيره ».
الحكم الخامس : هل الصيام أفضل أم الإفطار؟
وقد اختلف الفقهاء القائلون بأن الإفطار رخصة في أيهما أفضل؟
فذهب أبو حنيفة، والشافعي، ومالك إلى أن الصيام أفضل لمن قوي عليه، ومن لم يقو على الصيام كان الفطر له أفضل، أما الأول فلقوله تعالى :﴿ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ وأما الثاني فلقوله تعالى :﴿ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر ﴾.
وذهب أحمد رحمه الله إلى أن الفطر أفضل أخذاً بالرخصة، فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه.
وذهب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى أنّ أفضلهما أيسرهما على المرء.
الترجيح : وما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح لقوة أدلتهم والله تعالى أعلم.
الحكم السادس : هل يجب قضاء الصيام متتابعاً؟
ذهب علي، وابن عمر، والشعبي إلى أنّ من أفطر لعذرٍ كمرضٍ أو سفر قضاه متتابعاً، وحجتهم أن القضاء نظير الأداء، فلما كان الأداء متتابعاً، فكذلك القضاء.
وذهب الجمهور إلى أن القضاء يجوز فيه كيف ما كان، متفرقاً أو متتابعاً، وحجتهم قوله تعالى :﴿ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ فالآية لم تشترط إلاّ صيام أيام بقدر الأيام التي أفطرها، وليس فيها ما يدل على التتابع فهي نكرة في سياق الإثبات، فأي يومٍ صامه قضاءً أجزأه.
واستدلوا بما روى عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال :« إنّ الله لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه، إن شئت فواصل وإن شئت ففرّق ».
الترجيح : والراجح ما ذهب إليه الجمهور لوضوح أدلتهم والله أعلم.
الحكم السابع : ما المراد من قوله تعالى :﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ﴾ ؟
يرى بعض العلماء أن الصيام كان قد شرع ابتداءً على التخيير، فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى، يطعم عن كل يوم مسكيناً، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ وهذا رأي الأكثرين واستدلوا لما رواه البخاري ومسلم عن ( سلمة بن الأكوع ) أنه قال : لما نزلت هذه الآية ﴿ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ ﴾ كان من شاء منّا صام، ومن شاء أفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها ﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ وهذا مروي عن ابن مسعود، ومعاذ، وابن عمر وغيرهم.